الأحد، 13 يناير 2013

الجميل إبراهيم سعيد / مقال بعنوان / حب الأرض, طبيعة الملك



السبت، 12 يناير، 2013

حُب الأرض وطبيعة الملك

حب الأرض، طبيعة الملك

اجرعي الدواء يا أبهة.
عرضي نفسك لتحِسي ما يحسه التعساء
لعلك تنفضين كل فيضٍ عنكِ لهم
فتبدو السماوات أكثر عدلاً وقسطاسا.

الملك لير، شكسبير
 ت: جبرا ابراهيم جبرا
أتربة وأمكنة:

الوطن في الأصل المقام، واستوطن بأرضٍ أي أقام بها، وما ندعوه الوطنية بالتالي هو حبُّ الإقامة في أرض، وبالتالي حبُ الأرض، لحظةٌ وقطرةُ حياةٍ من مزيد الحب، ذائبة في مياه خير الأرض، يرتوي من كرمها كل حي، ويعيش من ملحها.

حيزٌ حيويّ من الحب يشمل السُكان من السحابة العطشى الموشكة على التبدد، إلى البحر المحيط.

لعل فلسطين هي درسُ حب الأرضِ المعاصر الأبلغ في زمننا، من يرتبط بالأرض اكثر يأخذُ طباع الأرض: خشونتها ولينها، فصولها وتقلباتها، ثمارها وشوكها، سهلها والحزون؛ لأن من يحب الأرض يتماهى معها، من يتعلق بأرضٍ يشابهها.

الوطن ليس مكاناً مجرداً، ولكنه مشاعر حب لمكان؛ ليس ملكية أرض، ولكن أن تمتلكك أرض، وأن تنصاع لأوامرها ونواهيها. لرغبتها وحبها.

أن تربط نفسك في روح شجرة وجدار عزيز، ربما سمعت عنهما ولم تشاهدهما في حياتك، وأصوات ومواعيد، أشياء تسميها وطنك، تؤثر فيك كثيراً وتتأثر بها كثيراً.

أن تشعر بالقرابة مع عدد هائل من الناس، تسميهم أبناء وطنك واخوتك. الوطن مسألة شخصية مشتركة مع التأثر الجماعي؛ وفي اللحظات الكبرى تشتعل أعصاب الجسد كلها تلقائية: من العيون اللواحظ يخرج كلام على هيئة دموع حارة، ومن الفم تخرج كلماتٌ لواهب. الدم الحار يصل كل خلية دموية. من أجل تلك المشاعر العزيزة: مشاعر أرض، أرضية مشاعر.

مشاعر الأوطان محتدمة بالحب لمنطقة بعينها من جسد الأرض، والأرض: وطن الأوطان. مشاعر لا يعادلها إلا مشاعر الأم لأبنائها، لذلك ربما يسمي الوطنيون أنفسهم في العالم: أبناء الأرض. لأنهم يعتبرونها أماً. يعتبرون قبورها أرحامهم المستقبلية، وأرضها رحمهم الحاضر. كما علمتهم الأرحام التي أنجبتهم وغذتهم.

الوطن أصواتٌ معتادة في الصباح تستيقظ على وقعها، وامتزاجها.
الوطن مسألةٌ صوتية أيضاً.

البلدان عناوين في الزمن، وصناديق كبيرة هي بيوت مختلفة ومتراصة, والبلدان بللٌ دموي.
الخير وحده هو ينمو بالأوطان، ووحده الحب يوحدها. والمعادلة الحلمية الأزلية ليست إلا: العدل والرحمة والحب والخير، في مقابل الظلم والتجبر والكره والشر.
(وبعضهمُ في اختياراتهِ يُحبُّ الدناءة حُبّ الوطن!) ..البحتري

الأوطان أراضٍ معشوقة منذ آلاف السنين، قبل الدول والحدود السياسة والأنظمة، قبل التحكم في العشق الفطري الإنساني بواسطة السياسة. الوطن مشاعر فطرية، الوطنية ليست تعبئة اعلامية ممنهجة، بل الوطن الحقيقي مسألة جينات، وشفرة وراثية لا يمكن اهمالها من هذه الروح الإنسانية: ابنة الأرض، ولا اسقاط هذا القدر الكبير من أنهار الدم المنسكبة في حضن التاريخ، هذه الكمية الهائلة من شقائق النعمان التي تملأ ساحات المعارك.

علمتنا فلسطين وهي درس الوطن البليغ المعاصر. كيف يكون الوطن محفوظاً في الصدور، وبالصدور، لا يذوب بل يقاوم ويحيا في مخيمات المقاومة العنصرية، عصياً على التذويب، علامة واضحة وسمة مميزة لبلاد (كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين) ..محمود درويش
لكن معنى المثل واسع يشمل اسماء كل البلدان والأوطان، درسٌ فلسطيني للعالم عن الوطن، عن الفطرة, عن الدوافع المتجذرة في أجيال وأجيال، عن الهمِّ والانشغال المستمر والمقاوم بملايين الأشكال المتفقة والمختلفة من أجل وطن وتراب أرض.

وطنية القسر: الديكتاتورية:

تسعى الوطنية دوماً للتعبير بمستوى يقابل حبها، إخلاصها العميق، وأي قسرٍ لذلك التعبير تراه النفس الطبيعية تشكيكاً وتخويناً، لا يوجدُ حبٌ بالقوة، كل حُبٍّ بالقوة إهانة للحب، هكذا لا يمكن أن نقسر الحب كي يقول أنا أحب؛ الحب يبغض القسر الرسمي، وينمو بالانبعاث الداخلي، وكل محاولة لقسر الحب تولد فيه كراهية داخلية مخفية، ومخيفة، ردة فعل على قسر الضمير العاشق على النفاق، على خيانة صورة الحب في داخله، والكذب.

محاولة قسر الوطنية بالتهديد والإغواء والإغراء تفعل بالوطنية ما يفعله العهر بالروح، العهر الذي يقدم شكل الحب على بساط جسده دون ضمير، حتى لمن يشعر تجاهه بالكراهية أو لا يشعر تجاهه بأي شيء؛ عهر من أجل الكسب، حبٌ للبيع والشراء، جسدٌ يخونُ روحاً، ذلك هو العهر الذي تتحدث عنه باستمرار قصائد مظفر النواب الشعرية في هجاء التزلف الرسمي وعبادة الفرد وتقديسه، بدل تقديس الأرض والأوطان واحترام روح التراب.

الديكتاتورية تولدُ من قسر الوطنية، وحينما يكون الحُب إرغاماً رسميّاً، وشكلاً زائفاً من التعبير، تولد بيوض الديكتاتورية وتفقس في الرؤوس، تصبغُ السادة والعبيد؛ يستبدل السيّدُ روحه بالقانون أمام العبد، والعبد يستبدل روحه بالأداة؛ الديكتاتورية وليدة سلبٍ، ابنة انعدام روح الحب الباحثة عن العدل، عدم البحث عن العدل يولدُ غيابه، ولا أحدَ يسأل عن غياب العدل حين يغيب الحب؛ يغيب العدل ويستبدل فراغه الهائل بشكله: بأداته: القانون، عندها لا يبقى سوى الظلم الميكانيكي يحكم باسم القانون، وعندها كي يستمر النظام في الحكم فإنه يبرر الظلم لفهم العبد، والعبد آلة لا تملك إلا الخضوع.

تحاول الديكتاتورية أن تسرق حبَّ الوطن وتتخفّى خلفه، بالقوة، بالكبرياء والتكبُّر، تتكبّر الديكتاتورية وتكبر، يزيدها من هم حولها بالأوهام المزينة بالإضاءة الملونة، يزينون لها البطش بمن يخالفها القول، بمن يحجمها، ويظهر زيفها، فتبطش الديكتاتورية بضميرها. لأنه يطعنها ويوخزها على الدوام. والضمير لا يطعن أحداً إلا لأنهُ يحبه، وحين يغيب آخر من يُحب الديكتاتور وهو ضميره فمن سيطعن الديكتاتور بعدها إذن؟ من سيخوفه من العاقبة حين يُقتل الضمير أو يسجن؟ من سينبهه للحفرة التي ستبتلعه.

عاماً أو عامين أو عشرة أو أربعين عاماً، الشام تنتقم ممن عاشت في ظل قسرهم لحبها الطبيعي أربعين عاماً، تنتقم الشام بعذابٍ وتشفٍ يومي، وطنية تنتقم من قاتلها، تريد أن تطيل موته البطيء: جنونه، رعبه، خوفه، موت أقاربه، خيانة أصدقائه. تقتله بانتقام رهيب لكل من ماتوا مخنوقين من غاز القهر في السجون المركزية بآلة التعذيب، وبكل الكراهية التي تغلها اليد والرجل والجسد والقلب، بردة فعل االألم الكبير لكل أنّةٍ صدرت من مظلوم، وكل آهة من مُهان، وكل شهيدٍ ماتَ عمداً وخطأً، بكل تعمد العذاب لجسد الشام. تنتقم الشام، بصورة سوداء محروقة في العالم كله لرجل، ولأبيه، وكل عائلته. سوداء سوداء كما يبدو العالم في عين مريضِ مصر الواجم: الأبكم بين الحياة والموت، يطالع العالم كي يتألمَ أكثر، ويطلب الموت الرحيم، والموت الرحيم لا يأتي، بل يأتيه الموت المؤلم. ألم يكن الشارع يصرخ في وجهه: (كفايه) وهو لا يسمع. ذلك اذن جزاء من لا ينصت، من يتكبر على الصوت، أن يظل يعيد شريط اللحظة الأخيرة، أن يعيش مع ذكرياته ويقارن ذاته باستمرار، أن يبكمه الألم حتى عن الصراخ ولا يملك فكاكاً. عبرة حية لمن يريد أن يعتبر ولمن لا يريد. صورة ناطقة، ودرس من ذهب، لكن العماء لا يرى، وانعدام الحساسية لا يبقي شعورا.

سقطت الديكتاتورية في عذاب مستمر، لا هدوء فيه ولا راحة، بل موتٌ بطيء ملعون، يدفع بذاته ثأر كل من رحلوا، لعنة وحلّت فوق رأس، كان يحسب نفسهُ أكبر رأس. الوطنية ترفرف كشبحٍ انتقامٍ مجنونٍ فوقه، والشك يملأهُ حتى من أقرب أقربائه، حتى ممن يحبونه، حتى ممن كان يحبهم. لم يعد يثق في شيء. كراهية ذاته هي زمنهُ الوحيد المتبقي. يتمنى أن ينتحر، لكن قدره يطيل أيام ألمهِ بمزيدٍ من الألم، بالمقابل الموضوعي المضاد لكلِّ أملٍ سرقهُ هو ومن سبقه من صبيّ وشاب، وكل براءةٍ انتزعها من مراهق. وكل كذبة كُذبت، وكل سفرٍ وغربة سببتها خيانتهُ لضميره وحبه ووطنه.

كفرُ الرمز الوطني بالوطنية الحقيقية، واستبدال ذاته بها، ذاته الفانية، الصغيرة الهوجاء، التي لم تدرك معنى حب الأرض الطبيعي، والإيمان بالأرض، أو التضحية من أجل الوطن، لم تعرف إلا ذاتها المتورمة، لذلك طلبت الثمن عاجلاً. على حساب الضمير المقتول، الذي لم يعد يسأل أو يشكك، الضمير الذي لا وقت لديه كي ينصت لصوت سؤاله نفسه. فكيف سينصت لغير صوتِ ذاته المتضخمة: الآلهة المتجسدة في وهم شخصه، المفخّمة بكل تلك الخزعبلات التي يجيد المستشارون صنعها كي يحفظوا أرزاقهم الهائلة من العته البشري لإمبراطور وملك، لإنسانٍ متضخمٍ بالخواء.

لماذا إذن يحتاج الديكتاتور إلى مهرِّج، كي يكون قربه، كي يكون نديمه وقرينه، الملتصق به، الذي يحوم حول الملك كملاكه الحارس، كصورته هو نفسها المنعكسة، الملك الذي لم يعد فيه ما يكفيه للضحك، الذي فقد براءته في متاهة وهم الذات، الذي أثقلته الرسميات حتى لم تعد فيهِ خِفة الضاحك، يحتاجُ مهرجاً كي لا يتجمّد كصنم ينتظر فأساً. أو حريقاً.

وما الخاتمة ما دام جسد الاسكندر الأكبر نفسه صار سدادة طينية لدنٍّ من دنان الخمر كما أخبرنا شكسبير في هاملت:

الاسكندر مات/ الاسكندر دفن/ الاسكندر عاد الى تراب/ ومن التراب نصنع الطين/ فلماذا يُستبعد أن يسد بعضهم بذاك الطين دناَ من دنان الخمر؟
هاملت/ شكسبير
ت جبرا

وكما من قبله قال عدي بن زيد: ثم بعدَ الفلاحِ والمُلك والنعمةِ وارتهمُ هناك القبورُ/ ثم صاروا كأنهم ورقٌ جفَّ فألوت به الصبا والدبور.

الطبيعة وملوك الوطنية:
(الملوك ليسوا ملوكاً بالإرادة فقط بل بالطبيعة، وكذلك الخدم ليسوا خدماً بالإرادة فقط بل بالطبيعة) الفارابي، كتاب تحصيل السعادة، ص17 ، ط. دار الهلال بيروت 1995م
(يا قطعة من الطبيعة تهدمت! هذا الكون الكبير ليهرأنّ حتى العدم!)
غلوستر مخاطباً الملك لير، شكسبير
(ليس للملك سحنةٌ أو وجه) الملك هو الملك، سعدالله ونّوس

الملكية رمز من رموز الوطنية، لكنها الرمز المسيطر، الملك: الآمر، المبجّل، المحترم؛ لهيبته الملكية، برموزه المختلفة: صولجان، عرش، حاشية، خدم، مهرجين ..الخ. وبخضوع السلطة له، باستماعها لأوامره، لأحلامه، لتفسير أحلامه لأنها تعبر عن أحلام ما يمثله كرمز، كملك الرمزية الوطنية، القوة المنبعثة من تلك الوطنية، من حب الأرض التي يتبوأ عرشها الملك. والملك ملك مشاعر الوطنية، ومشاعر الوطنية حُب، لذلك حين يسقط حُب تلك المشاعر تسقط الملوك تلقائياً، وعادة بخيانات قريبة كخيانات بنات لير، أو خيانة أبناء الامبراطور في فيلم كيروساوا Ran، خيانات داخل القصر، أو قريباً من ذلك في الحرس والجيش، هكذا لم تتوقف الانقلابات والتي ليست إلا انقلابات شعورية. احتراق القشرة الرقيقة من الكذب والنفاق وظهور الصورة الحقيقية لشجرة الكراهية.

في فيلم Ran للمخرج الياباني أكير كيروساوا نرى في المشاهد الأولى صور الكبرياء الملكية الملونة وهي ترفض أن تستمع للنصيحة الثمينة حتى لو صدرت من فم الابن الصادق، وأكدها المستشار الوفيّ، كبرياء متوحشة تنفي الابن والمستشار من المملكة وتهدر دمهما، الغطرسة الملكية التي توشك أن تعفر أنفها في التراب عما قليل. من عماء السلطة. نتذكر مشاهد البداية في الملك لير حين يقول كنت: (اقتل طبيبك، وانفق الأجر على الداء اللعين، ما دمت استطيع صراخاً من حنجرتي سأقول لك شراً فعلت) 

شعرة دقيقة فارقة لا تميزها فيمن يملك إلا روح حب الطبيعية التي يشير لها الفارابي وشكسبير وسعدالله ونوس في الاقتباسات أعلاه، الطبيعة تنقاد لطبيعتها فقط، تخلص لطبيعتها وصدقها وبساطتها، تدرك وتميز المخاطر، وتتبع شعرة الروح الملكية مهما اختلطت الدروب، وعصفت الأمواج بالأمواج. 

لا ضمانة طبيعية اذن إلا صادق الحب للأرض، والحنوّ عليها، وعلى أهلها، وحده الحب يقود بشغاف قلبه لمشاعر الأرض، طبيعة الحب تملك الأرض: حب الأرض، ومن تحبه الأرض تحميه. ومن يزرع حُباً يحصده.

إبراهيم سعيد