الأحد، 23 ديسمبر 2012

مجلة الفلق الإلكترونية / الكاتب الرائع .. حمود سعود / أحد معتقلي الرأي في سلطنة عمان / يكتب ..رسائلُ صغيرة من السجين (94.ISS) إلى أشياء حميمية.


عن الكاتب: حمود الراشدي تكبير الخط تصغير الخط


1- من الزنزانة إلى رحمها
أيها الكائنُ النائم الآن داخل رحمي. عمتَ مساء أو عمتَ صباحاً، لا وقتَ محدد هنا. أنتَ المتكورَ على نفسِك الآن منذ أيام، تفكرُ في دموع أمك، وفي موسيقى المقهى، وصوت النادلةِ، وشمس الظهيرةِ، وظهيرة المقابر، وفي طفولتك البعيدة والقريبة، وفي ذكرى امرأة الحلم، وفي الأصدقاء، وفي الحنين. وفي الوجوه التي مرّتْ في الذاكرةِ، والأجساد التي تحتَ الترابِ، وفي الطفل الذي يركضُ في المقابر.
أيها الكائن فكّرْ في نفسِك ولو لخمس دقائق من عمرك المسروق في بيت الجّلاد. فكّرْ في وجهك الغائب منذ زمن، وفي الطفل النائم بداخلك.
أيها الكائن لا تفكّر في أي شيء، حدّقْ  في السقفِ، حدّقْ في عين المخبرِ المعلّقة بالسقف، حدّقْ في تضاريسِ رعبه، حدّقْ في يده المرتجفة كيد اللص.
وفي خديعة الكلام والضوء والعتمة، فكّرْ في صوت صدى مفاتيح الزنازين في الممر الفاصل بينها.
2 – إلى أحمد البحري
أيها الرفيق الجميل، جمعتنا ساحة الشعب ـ كنتَ تقطع المسافات برفقة خميس قلم  لتشربا شاي الساحة وتدخنا مع الأصدقاء تبغ الحرية ـ ومقاهي مسقط، وخديعة الحكايات، والليل في البريمي، والآن تجمعنا زنزانة واحدة، قبل عام كنتَ أنتَ في هذه الزنزانة وكتبتَ على جدرانها :
-        هذا المكتب السلطاني.
-        هذا اعتقال غير قانوني.
-        الأحرار يمرون دائما من هنا.
-        لا تحزنوا فأنتم الأعلون.
وعلى جهة اليمين من الفراش كتبتَ:
-        لا تمت قاومهم بضحكاتك.
في الليلِ أحاولُ أن أسرقَ ضحكةً واحدةً من أشواكِ الضجر الليلي، فلم أجد سوى دمعة أمي تحاصرني، وصوت الجلاد يصرخُ في وجهي في غرفة التحقيق الضيقة.
-       ” أنت ما فيك أدب والحكومة بتعرف كيف تأدبك”.
-       ” يا السفلة تتجرأ على ولي نعمتك وإللي علّمك ودرّسك……”
يا أحمد من أين أجدُ الضحكةَ ؟  وهل يفهمون معنى الضحكة ؟
ربما سيقولون لي : لماذا ضحكت ؟ وما الأهداف الخفيّة للضحكةِ؟ ومن كان معك في الضحكة ؟ وكيف وصلت لك الضحكة إلى الزنزانة؟ هل نسّقت مع أحد قبل أن تضحك؟
يا أحمد في الليل أحدّقُ في قبيلتك المكتوبة على الجدار الأيسر للزنزانة، وأتخيّلُ أن قبيلتك تتحول من البحري إلى بحر، بحر واسع يجرفني من الزنزانة، يجرفني من هذا السأم المدمر. وفي هذا البحر أرى  ناصر بن مرشد اليعربي يحرق آخر سفن الغزاة، وأرى دم الغزاة يغسل الجبال .
3_ إلى امرأة غجرية في غرناطة
في الزنزانة الانفرادية، وفي سراديبهم “الوطنية” كانوا يقدمون لي مع كل وجبة (غداء أو عشاء) سلطة خضار، ومع هذه الخضار ثلاث حبات زيتون أسباني أسود اللون، ثلاث فقط. لا أدري لماذا يصرّون على اللون الأسود؟ جونية الاعتقال سوداء، ملابس الحراس المقنعين سوداء.
كنتُ بنوى هذه الحبات الثلاث أكتبُ على جداران الزنزانة  في الليل.
كتبتُ اسم الله ممتدا إلى الأعلى، وبعده كتبتُ  (عمان الجديدة)
وكتبتُ الحرية ممزوجة بالحياة  وبالجمال، وكتبتُ بنواة (البطيخ) الأسود اسمي والعام الأسود واسم هذه البلاد التي تقسو على طفولتها.
في الضجر النهاري كنتُ أفكّرُ في الفتاة الغجرية التي حصدتْ  بأصابعها حبات الزيتون الأسود، وأحاول إشعال لعبة الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة للخيال.
 قال الخيال: ربما كانت فتاة في العشرين من العمر، تدرس في جامعة غرناطة في كلية الآداب، وتعشق لوركا وتحفظ أشعاره. تسكنُ في بيت ريفي يطلُّ على نهر، تجلس الآن على شرفة بيتها الريفي، مع صديقها وتشرب نخب عيد ميلادها، وتغني له، وتقرأ له من شعر معشوقها لوركا.
العاشرة ليلاً بتوقيت غرناطة، لا وقت محدد هنا سوى الضجر.
يدها على خدِّ صديقها، تداعبُ خصلات شعره الأشقر. شعرك الأسود يتساقط على أرضية الزنزانة. تزرع شعرك المتساقط في جدران الزنزانة لعّلهُ ينبت غابة تشبه غابة الغرناطية البعيدة.
يدك تضغط على نواة الزيتون الأسود، تكتب اسم بلادك. بلادك التي كُنتَ تهتفُ لها في صباحات البرد (حرة … حرة). البلاد التي همستُ بصوت خفيف في سيارة الاعتقال (اليوكن الأمريكية السوداء) : ” حرة يا عُمان  رغم القيود والظلام” .
 يدك تتلمس اسم الله المكتوب في جدار الزنزانة .
يدها على ديوان لوركا تقرأ قصيدة صغيرة.
أيتها الغجرية هل تدركين الآن أن يدك التي قطفتْ حبات الزيتون من بلادك تتركني وحيدا في زنزانة عربية ؟
وأنا مثلكِ أعشقُ لوركا.
لا نلتقي لا نفترق، المسافة سيدة المنفى  أيتها الغجرية البعيدة.
يا لهذا السواد أيتها البعيدة.
صرخ الخيال مرة أخرى معترضا على الخيال الممكن السابق، رافضا ما قاله الخيال السابق.
قال الخيال : يا بو سعود إن الحبات الثلاث السوداء التي تأكلها مع كل وجبة هي أسبانية المنشأ ولكن اليد التي حصدتها ليست لفتاة في العشرين. اليد لامرأة عجوز ثمانينية مات زوجها  منتحرا تحت قطار ليلي. تعيش وحيدة منذ عشرين عاما. أحيانا  يزورها ابنها الوحيد القاطن في بلاد ما وراء ضفة البحر. الآن العجوز الثمانينية تنام…
- على الجدار.
- يدك فوق.
طار الخيال خوفا من صوت حارس الزنزانة .
4-  إلى أبي
أبي الجنوب، أبي المنفى. ما بين دمك النازف في الجنوب خريف 1973م وبين صيف 2012م  كنتَ الحكاية والقصيدة  والجرح. الحكاية لم تكتمل ولن يكتمل الجرح يا أبي. لأن البلاد جرح يكتبه المستعمر “الوطني” . أحلامك المبعثرة في البحرين وقطر في ستينات القرن المنصرم. وأنت لم تتجاوز السادسة عشر من عمرك. منفاك كان هروبا من سجن سعيد بن تيمور الكبير. في بداية السبعين كنت جنديا وسيما بـ” الغترة والعقال”؛ كما تقول الصورة الوحيدة واليتيمة لك في جيش الإمارات .
قالت لكم الجرائد والمسافرون: ارجعوا بلادكم. عمان محتاجة لأبنائها.
ترجع من منفى الجوع يا أبي لتجد نفسك في الحرب والدم. لم تستوعب فكرة الرجوع. رأيتَ الإنجليز الذين شاهدهم أبوك في حرب الجبل الأخضر. رأيتهم يرسمون الدم والخريطة والعهد الجديد.
أبي الجنوب، أبي المنفى
أبي الدمع، أبي الدم.
 جسدك المتروكة في العشب الأخضر، الدم الذي سال. سال ليثمر الخديعة الكبرى.
ها أنت تبكيني الآن يا أبي وأنت تُطلُّ على البلاد، ودمك النازف في دم اللحظة القلقة. في مكالمتك لي بتاريخ التاسع عشرمن يونيو وبعد عشرة أيام لي في السجن السرّي.
قلتَ لي:
-        ” يا ولدي أنت في عمان  وا شالينك في الخارج؟ “
-       ” ما أعرف  يا أبوي.. مشلول في جونية سودا”.
يصرخ المحققُ :
-       ” ليش قلت حال أبوك إنك مشلول في جونية “؟
-        ”أيوه مشلول في جونية سودا من القسم الخاص. شو يعني جايبيني في طائرة “.
- اسكت .
- ما اسكت .
- إذا ما سكت بدخّلك المختبر.
حبست الدموع في غرفة التحقيق حتى لا يراها رجل الأمن، تحت الماء تركتُ الدمعة تسيل، سال الدمع والماء في أنابيب سجن الأمن الداخلي، كما سال دمك ودمعك يا أبي.
لم أنم طوال تلك الليلة. بكيتُ كثيرا. صوتك البعيد، صوتك في المنفى والجوع والفقر والحرب.
رأيتُ يُتمك الطفولي، ورأيتُ جوعك في المنفى، وفقرك في الوطن.
رائحة دمك النازف في الجنوب أثمرتْ وردةً ونخلةً.
كلما حدّقتُ في سقف الزنزانة رأيتُ صورتك، وكلّما دسستُ وجهي تحت الغطاء سمعت صوتك.
سأقولها لك يا أبي مرة أخرى كما قلتها لك في سجن سمائل:
- لن أموت يا أبي كما لم تمت أنت في الجنوب.
ماء الخديعة لن يسيل مرتين.
يا أبي جنوبك البعيد لن يلتقي مع شمالي الملتهب.
5- إلى الحذاء
بعد سبع ليالٍ وثمانية أيام. حافي القدمين، مُجبرا على أن أرتدي ( آفرول أزرق). خطواتك الثلاثون نحو دورة المياه، خطواتك الخمسون نحو مكتب التحقيق، وخمس وأربعون خطوة نحو مكتب الطبيب الهندي الذي يعالج كل أمراض الأرض. حافي القدمين. تحاول أن تتذكر الأحذية، تفكر في أغلى حذاء لبسته.
بعد ثمانية أيام.
يطلب منك رجل الأمن الملثم بالسواد. يخافون عندما تنظر إلى عيونهم.
-       رأسك على الجدار. ارفع يديك.
رجال الظلمة والسواد يأخذونك إلى غرفة التحقيق، وبعد ساعة ترجع إلى الزنزانة، يرفع رجل الأمن الكيس الأسود، يفك القيد من يديك.
-  رأسك في الجدار. يصرخ.
-  غيّر ملابسك والبسْ ملابسك المدنيّة .
أُنزل يدي، ألتفتُ نحو الفراش، أرى دشداشتي وإزاري الأبيض و(الكمة ) الزرقاء والحذاء .
خلعت ملابس الزنزانة، لبست داشداشتي والكمة، الآن شعرت بقيمة الكائن بعدما كنت رقما في حساباتهم.
أدخلت قدمي في الحذاء. أخرجتهما. أدخلتهما مرة أخرى. مشيتُ قليلا بالحذاء. ثلاث خطوات ونصف. رجعت إلى الخلف بالطريقة نفسها. يااااااااه كأنني طفل يفرح بحذائه ليلة العيد، لا أنا أكثر فرحا الآن من طفل العيد.
أخرجتُ قدمي من الحذاء، تمددت على الفراش، نزعت الكمة من رأسي، تأملت الحذاء، بياض في الطبقة العلوية وسواد في الطبقة السفلية، لأكثر من عشر دقائق كنت أتامل هذا الحذاء فرحا وتحليلا للونين المتضادين، السواد والبياض، فرحت كثيرا بدشداشتي البيضاء، الحذاء تاريخ الإنسان، تاريخ لحياة الكائن، الحذاء لوحة الخطوات، بياض الفرح يغسلُ سواد الزنزانة.
تذكرتُ كل مواقفي مع الأحذية.
6      - إلى الميت حمود الراشدي
في العشرين من شهر يونيو  في العام الوطني الملتهب وبالتحديد في فجر الأربعاء وبتحديد أكثر قبل أن يُرفع صوت النداء في جوامع مسقط بساعة أو أكثر بقليل؛ كانت جثة الشاب العُماني المدعو في أوراق الحكومة حمود الراشدي باردة في الزنزانة الضيّقة،  وكان المكيف المركزي (التوشيبا) ياباني الصنع  ذو الثلاثة أطنان يدفع برودته  بكل قوة على الجثة الممددة، رأس الجثة سقط على الجانب الأيمن من الوسادة.
الرابعة والربع فجرا:
يفتح رجل الأمن المقنع بالأسود باب الزنزانة. يدفع الباب بقوة.
 يصرخ :
-  الراشدي صلاة قووووووم.
-  ……..
يصرخ مرة أخرى :
-        الراشدي قووووووووم صلاة.
يقترب بحذر شديد من الجثة. بطرف حذائه العسكري لكز قدم الجثة.
- الراشدي قووووم على الجدار .
ركل رجل الأمن الجثة بحذائه العسكري في الفخذ، خرج، لم تتحرك الجثة.

العاشرة صباحا
كانت جثة المدعو حمود الراشدي ممددة في مشرحة الموتى في مستشفى الشرطة. خارج غرفة التشريح كان ضباط الأمن في حالة توتر. بعضهم تفوح منه رائحة خمر ليلية، وفي مشرحة المستشفى كتب الطبيب الجنائي
” أن الجثة فارقت الحياة الساعة الثالثة فجرا، وأنّ سبب الوفاة هو البرودة الشديدة.
سحب ضابط الأمن التقرير الطبي ومزّقه. وحذفه من كمبيوتر الطبيب.
نزل حرّاس الملك والملاك من قلعتهم الأمنية. التي تطلُّ على مسقط.
في بهو المستشفى اجتمعوا. وخلال ساعة فقط قرروا أن يكتبوا في تقريرهم أن  المدعو حمود الراشدي فارق الحياة بشكل طبيعي جدا.
حملتْ سيارة الإسعاف جثة الشاب الثلاثيني من المشرحة إلى قريته المختبئة خلف جبال الحجر. ومن مصادفات الحياة  والموت أن سائق سيارة الإسعاف كان صديق الجثة وهو شاعر، ومن مصادفات الحياة والفاجعة كذلك كان السائق الشاعر يردد مقطعا لمحمود درويش حفظه البارحة:
” لم أجد سبباً لأسأل: منْ هُو الشخصُ الغريبُ؟
وأين عاش، وكيف مات فإن أسباب الوفاة  كثيرة من بينها وجع الحياة”.
السادسة مساء / مقبرة سيح القلعة.
في المقبرة يد رجل تعجن الطين بالماء، رائحة الطين تعبق في المكان. وفي المغسلة كانت الجثة جاهزة. مرّت الجنازة صامتة وغاضبة.
همس شاب لصديقه :
-        ”الله يهديه المرحوم شو يريد لها الحكومة ؟. مدرّس راتبه زين. من يناطح الحكومة برأسه ؟ “.
كانت يد صديق تضغط على أزرار هاتفه وتكتب رسالة نصية :
- جنازة حمود الراشدي تمرُّ الآن في لحظاتها الأخيرة.مع وجود أمني كثيف.
كنت أصرخ بهم أن يدفنونني تحت تلك ” السرحة “1 هناك حيث يرقد أخي خالد منذ ربع قرن. خالد الذي يرقد تحت ظل السرحة منذ ربع قرن لم ينتبه  لجنازتي العابرة. كان الغروب الأخير للشمس وهي تختبئ خلف جبال الحجر.
على بُعد أمتار قليلة من قبر جدي دفنوني في مقبرة القبيلة بعدما تركوني بخمس دقائق.
صرخ  الجدُّ من قبره القريب:
-        بعدهم الإنجليز في عمان؟
-        لا حوله ولا قوة حتى هنا سياسة. أيْوَه جدي بعدهم الإنجليز يهيسوا ويقرزوا في البلاد”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ  السرحة : شجرة كبيرة تشبه الطلح وتسمى في العربية طريح وقضه ومره. ورقه لا شوك به