قراءة في تغريدة الدكتور زكريا المحرمي حول سماحة المفتي والردود بعدها
كنتُ بداية أتمنى من الدكتور زكريا المحرمي في مثل هذه القضايا التي تفسر وفق مقاييس مختلفة، وعقول متباينة، من محب أو مبغض، من مؤيد أو معارض؛ أن تكون في مقال لا تغريدة، وذلك لأنّ المقال فيه بحبوحة من ذكر المقدمات ليعطي نتائج سليمة، مدعما بالأدلة والشواهد، ليكون الحديث عن الفكرة ذاتها، وإن كنا لا زلنا مجتمعيا نعيش مع الأشخاص، وهذا خلل تربوي يعاني منه المجتمع العماني كسائر المجتمعات القريبة.
وقبل الدخول إلى القراءة اذكر نص تغريدة الدكتور زكريا ونصها: [كان الفقه في عمان مشتملا على تأصيل الشافعي، وعبقرية الحنفي، أما اليوم فقد صار ضيقا حرجا لا يقبل سوى رأي الخليلي والقنوبي].
وللإنصاف أجدُ نفسي أمام كلام إنشائي عام، فالفقه ذاته متغير ومتجدد بطبيعة التأثر الداخلي والخارجي، فمثلا يحدّثني الشيخ أحمد بن سعود السيابي عن الفقه الإباضي كخط عريض يقول فيما معناه: كان الفقة الإباضي المشرقي والمغربي له خطوطه المستقلة في بدايته، وهو أقرب إلى مدرسة أهل الرأي، [قلتُ: كانت المدارس الأولى لها خطوط متشابهه كالمالكية والزيدية والأحناف لاحقا] ثمّ قال: أما المشارقة فبعد تعليقات أبي سعيد الكدمي على الإشراف لابن المنذر النيسابوري اقتربوا إلى خط الشافعية أكثر، ولوجود المدرسة الشافعية في المشرق كعمان واليمن بصورة كثيفة، بينما المغرب كان التأثر أكثر بالمذهب المالكي خاصة بعد تغير الخط المالكي بعد شيوخه الأوائل الكبار وتأثره بأهل الحديث خصوصا. انتهى معنى كلامه.
ولهذا مثلا حدث الصراع مع النكارية مقدما، وهم شباب لهم رؤية نقدية مع الشيوخ، وكانوا منكرين للتأثر بالمذهب المالكي، مع رغبتهم للعودة إلى أصول الإباضية الأولى، وللأسف النكارية لم تُعطَ حقها من الدراسة حتى اليوم.
عموما التأريخ الإنساني طبيعته متأثر ببعضه بعضا، فمثلا الوجود الصوفي العالم الإسلام خاصة أبان الدولة العثمانية أثر تأثيرا كبيرا على الإباضية كما عند الجيطالي في المغرب مقدما، وكما عند المشارقة كأبي نبهان وابن الشيخ ناصر وتلميذه الشيخ سعيد بن خلفان، وكذا في زنجبار مثلا عند الشيخ أبي مسلم البهلاني مثلا.
وعليه المدرسة الإباضية مؤخرا انفتحت على كتب القوم بصورة كبيرة كما عند الشيخين السالمي واطفيش، وهذا ظاهر من نتاجهما وكتبهما.
وعليه لقوة الطرح السلفي الروائي، هو أثر أيضا على الجانب المشرقي وهذا ظاهر عند الشيخ القنوبي، وعند الشيخ الخليلي مؤخرا.
كذلك المدرسة الإصلاحية التي قادها بداية رفاعة الطهطاوي، وقبله الشيخ بخيت، ثم نمت بالمفكرين الأفغاني ومحمد عبده، هذه أثرت عند الشيخ بيوض وتلامذته، ومن جاء بعده، كما عند الشيخ أحمد الخليلي في بداياته.
وما ساد بين هذا وذاك من رؤية قرآنية والتي بدأت نوعا ما عند الشيخ الغزالي فنمت وتطورت تأثر بها الأستاذ خميس العدوي والدكتور زكريا مثلا.
وهذا التأثر شيء طبيعي ليس مستقبحا، القبيح الاعتداد بالذات وانتقاص الآخر، لأنّ المدارس الإسلامية مدارس بشرية لها بحبوحة من الفكر والمرونة، والتأثر أمر طبيعي بين البشر، والقرآن أعطى ذلك بقوة في مفرداته ودعوته للتأمل والتدبر، والنظر والتفكر.
أما إنغلاق المذهب على الشيخين فإن كنت أوافقك على بعض جزئياتها، إلا أنه قد يكون من أسبابها المجتمع الإباضي ذاته، فكما نعلم عندنا فقهاء اليوم كبار ومفكرون وباحثون أيضا، وللأسف نجد أكثر المجتمع يجهلهم، ولا أريد أذكر أسماء، ولهم رؤاهم الذاتية والتي تخالف حتى الشيخين، ومع هذا لا وجود لهم على الساحة إلا عند القليل جدا ممن يلتصق بهم، وهذا الغذاء الفكري بطبعه سيؤثر سلبا إذا فقد، لأن المدارس تقوى بتعدديتها الفكرية، وكلما زادت قاماتها وتنوعت، وليست نسخا من بعض؛ كلما قويت وترعرعت ونمت كالحديقة الغناء.
كما أن المدرسة المغربية الإباضية للأسف غائبة خاصة في القطر الميزابي، مع وجود قامات كبار فيها، إلا أن أطروحاتهم لا نراها في المجتمع المشرقي خصوصا.
هناك أسباب لا نلقي فقط على الشيخين، مع تحملهم أيضا بعض الأمر، ولكن عندما تطرح في مؤتمر أو بحث نقدي هادئ لا شك سيؤتي ثماره ولو بعد حين.
للأسف ممن قرأ تغريدة زكريا، وردهم السلبي والشتم أرجعنا إلى تغريدة الشيخ العريفي من جديد، مع أن الرجل خرج منتصرا، وقابل السيئة بالحسنة، وأثنى على أهل عمان وعلمائها، ولم يقابلهم بالسب والشتم، ولا السخرية والاستهزاء.
ومع هذا للأسف لم نجد توجيها بعد ردود العريفي خاصة للمجتمع المتدين، والذي أظهر تراجعا كبيرا في الخطاب في الحقيقة نخجل أن ننسبه للمذهب، فأصبح السب والسخرية والاستهزاء، بل وبكلمات فظيعة جدا لا تخرج من لسان رطبت بكلام الله تعالى، والذي يزيد يوما بعد يوم، بينما الطرف المؤثر ساكت لا يحرك ساكنا.
إذا كانت قضية سياقة الدراجات أثارت المجتمع، فإن الانحدار في الرد ليس أقل أثما ليسكت عنه بهذه الصورة الغريبة!!!
نحن نرى يوميا إساءة إلى الله، ولكن الردود باهتة، بينما نقد الأشخاص ممن لهم رمزية تقوم الدنيا، ويصاحبها السب والشتم وانتهاك الأعراض!!!
من حق أي طرف أن يدافع عن فكرته، ولكن بنقد الفكرة، يوم القيامة لن ينفعنا الشيخ أحمد ولا زكريا، ولكن كل من أساء إلى الاثنين يوم القيامة يتحمل وزره، ولا يبيح له شرعا ولا قانونا أن يتجاوز الأفكار إلى الأشخاص، والله تعالى يقول متحدثا عن صفات المؤمنين: { أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}.
نحن بحاجة اليوم إلى أمرين: الأول الاعتراف بالتعددية لأنها سنة قائمة إلى يوم القيمة، والوسائل المعاصرة في الاتصال تفتح ذلك بقوة، ولا يجوز محاسبة النيات، واتهام الطرف الآخر بتهم لم يقولوها حقا.
الثاني: إقامة مؤتمر سنوي على الأقل كمجمع للمدرسة يفتح المجال لجميع الأطياف، وتقدم لها الأبحاث والدراسات النقدية، وأي قرار بعدها يصدر عن مجمع لا من أشخاص في مكتب أو مسجد أو موقع، مع فتح المجال للجميع، لتهيئة أرض مشتركة، ولا يجوز أن يدعي أحد أنه هو المذهب أو الدين، فالمذاهب لا تحصر في أفراد أو توجهات يمينية أو يسارية.
وعليه تعالج جميع القضايا في ظل توصيات وأطروحات مشتركة، مع فتح المجال للشباب والأجيال الصاعدة، تحت ظل توجيهات الكبار سنا وعلما، فلغة الإقصاء أو التحذير أو الإنشاء أصبح سوقها كاسدا.
فآن لنا من الطرفين أن نناقش الأفكار، ولا ننسى نقد الذات، ونستغل الوقت في كيفية الرقي بالذات، أما العيش في مناقشة الأشخاص والتعصب لهم أو عليهم فهذا لن يفيدنا شيئا، ولا يفيد هذه الأمة رأسا.
عموما أتمنى أن نرقى في ردودنا وخطابنا، وأن نجعل من دائرة الأمة جمعاء هدفنا وغايتنا، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.