الأحد، 24 فبراير 2013

الكاتبة: هدى حمد / مقال رائع .. بعنوان / ما قاله الهدهد/ مجلة الفلق الإلكترونية


هدى حمد

عن الكاتب: هدى حمد

كاتبة عمانية.

  

لم يعلم الهدهد أنّ الكلام الذي نطق به، تطاير وتردد صداه في أرجاء المكان، وأنّ بعض الأفواه مضغته إلى أن تغير طعمه ورائحته ولونه.. بل أفرغته من معناه وقصده.
كان الهدهد منشغل البال بالأحصنة لأيام طويلة.. تلك التي ذهبت إلى مصير لا يليق بها، وهي التي لم تفعل أكثر من أن تحتج على ما آل عليه النبع من تجزئة غير عادلة، صحيح أنّ الصراصير دخلت في القصة، وأحدث موقفها المضطرب ضجيجا وخرابا في الغابة عندما بدأت تتقيأ بالقرب من النبع حينا، وتطالب بحصتها العادلة منه حينا آخر.. لكن الأحصنة كانت أكثر وضوحا فيما تريد لمصلحة الغابة.
وربما تعاظم انزعاج الهدهد وهو يسرد القصة من على أعلى شجرة في غابة “مصيليح” بسبب النمر الذي لم يبت سريعا في القضية، وترك حالة الأحصنة الصحية تنتكس نظرا لإضرابها عن تناول الماء والأعلاف.
بل ما زاد الطين بلّة، وجعل الهدهد يُصاب بالغضب.. أنّ حيوانات غابة “مصيليح” استفادت إلى حد كبير مما استجد في واقعها الجديد من وفرة الماء، وعودة الخضرة بعد اصفرار الأشجار، وفتح مجالات جديدة للحيوانات الصغيرة المستضعفة للإشراف على قنوات الماء الرئيسية، ولكنها نسيت أو تناست ذلك.
هاهنا كان مربط حكاية الهدهد.. تلك التي فهمها البعض، وبعض آخر سارع إلى تأويلها كما شاء..
كان الهدهد يقيس التغيير الذي يُشاهده في الغابة.. يقيس الحذر الذي بدأ ينمو، وتلك القشعريرة التي أصابت القائمين على قنوات عبور النبع.. شاهد الخير المدسوس الذي بدأ يتدفق، ولولا أنّ أصوات الأحصنة قد علت لما استشعر البقية الباقية من الحيوانات هذا الخير، وهم الذين أوشكوا على مغادرة الغابة مجددا إلى غابات مجاورة بحثا عن رزق أوفر، ليعيدوا قصة أجدادهم القديمة.
لم يعرف الهدهد أنّ لأعلى شجرة في غابة “مصيليح” صدى كذاك الذي جعل كل من في الغابة يستمع لحديثه، بل هنالك من أضاف للحكاية من بهاراته الخاصة، ومن دسمه المسموم.
لكن ما الذي أغضبهم من حديث الهدهد.. ذهابه إلى التجريد بدلا من التصريح.. ذاك الذي ظنّ البعض أنه غيّر من هيئاتهم، وجعلهم مسخا.. أليس الله الذي دلّ قابيل على طريقة لدفن هابيل عن طريق غراب.. ألا يزخر القرآن بقصص الحيوان بل إنّ بعض السور تحمل أسماءها كالنمل والنحل والبقرة العنكبوت الفيل.. وغيرها.. تلك التي يجعل الله فيها عبرة للناس..
ألم تُنطق -ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وأحمد شوقي وأفلام الكرتون- الحيوانات.. لتقول على ألسنتها مالا تستطيع أن تقوله على ألسنة الناس.
فما ضرّهم في أن يقول الهدهد حكايته تلك التي يمكن أن تنطبق على أي غابة أو بلدة أو مدينة في العالم، بل يمكن أن تكون قصة تسردها الأرانب لصغارها قبل النوم..
نعم اختلفت الأحصنة في رأيها عن باقي الحيوانات، بالرغم من وجود من يُساندها الرأي بصمت مطبق، ولكن السؤال: هل من حق أحد أن يمنع الأحصنة من الاختلاف، وهل من حق أحد أن يمنع الهدهد الذي يقص الحكاية من أن يكملها!
ثمة أشياء لا يمكن أن نراها إلا عبر صور أخرى.. وهذا ما كان يريد الهدهد أن يُقربه لأذهان الناس..
وكما يبدو أنّ الأغلبية تمكنوا من أن يفهموا ما يرمي إليه الهدهد دون مزايدة، وإن دلّ على شيء، فإنما يدل على أنّ الوعي الجماعي والفهم وانفتاح وصول المعلومة جعلهم قادرين على أن يجدوا مفاتيح الحكاية بسهولة، والبعض الآخر تحامل على الهدهد لأنّ فكرة “الوطنية” يمكن أن تُفهم بأشكال كثيرة.. فالوطنية من وجهة نظر الطواويس والحملان الصغيرة هي أن تُغمض عينيك وتصفق للوطن، فعندما نحب الوطن علينا أن لا ننظر لـ زلاته، ولكن الهدهد يختلف كثيرا مع وجهة النظر هذه، ويتبنى فكرة على النقيض تماما وإن كان القاسم المشترك هو الحب.. فهو ينتقد ثعالب الوطن الذي يحب ليصبح وطنه أجمل.. ولكن ما فعله الشامبانزي كان أدهى وأمر.. فقد خلط الحكايات ببعضها البعض وصنع حكاية مخترعة في محاولة لكسر أجنحة الهدهد.. ولكنه كما يبدو – أي الهدهد – مستمر بالتحليق