مقدمة
السيف المسلط الذي رفعته كل الحكومات العربية على رؤوس شعوبها الثائرة ، و المبرر المشترك الذي استخدمته في قمعها وسحقها للفئات المعارضة لها ، الهادرة في الشوارع و الساحات بشعارات الإصلاح و التغيير ، كان " نظرية المؤامرة " ، و وصل الأمر بزعماء تلك الحكومات حد إنكار مواطنة و آدمية وعقول الثائرين عليهم، بوصفهم إياهم بالجرابيع و الجرذان تارة ، و بشذاذ الآفاق و المرتزقة و العملاء المتآمرين ، وبالمأجورين و المراهقين تارة أخرى .
و من المعلوم و المعروف أن كل بلدان العالم العربي كانت حتى الأمس القريب مستعمرات لواحدة من الدول الاستعمارية الثلاث ؛ بريطانيا ، فرنسا أو إيطاليا . و كان الاستعمار يومها ، في ثوبه القديم ، احتلالا عسكريا مباشرا و غاشماً ، الأمر الذي استفز مشاعر الشعوب العربية و حرك غيرتها على أوطانها ، فهبت ثائرة على العدو الأجنبي المحتل ، و انتفضت من محيطها للخليج تطالب بالحرية و الاستقلال ؛ و بخروج المستعمر من بلدانها و تكوين حكومات محلية تدير أوضاعها بدلا من الحكومات العسكرية الأجنبية .... و قد تم لها ذلك بعد تضحيات جسيمة. و قد خرج المحتل ، و لكنه بدهائه الاستعماري و غدره اللئيم ، خرج من الباب ، كما يقال ، و عاد من النافذة ، مرتديا هذه المرة ثوبا جديدا ، مستبدلاً جلد النمر المفترس ، بجلد الحرباء المتلون . متحولاً من استعمار عسكري مباشر ، إلى استعمار اقتصادي و ثقافي مباشر و غير مباشر . و ليتم له ذلك بشكل فاعل ، كان لابد له من إيجاد الكومبارس الذي سيقوم بالمهمة عنه و يضمن له بقاء ثروات البلدان تصب في خزينته ، فكان أن أوجد ، بشكل مباشر و غير مباشر الحكومات المحلية العميلة له و المرتبطة به مسيرا ومصيراً .
و لقد كثر الحديث منذ سنوات عديدة ، و خاصة في الفترة القريبة الماضية عن
" نظرية المؤامرة " على الأمن و الاستقرار الوطني و القومي في العالم العربي، بل وأن كل الحكومات العربية على اختلاف ألوانها استغلت تلك النظرية استغلالا ذكيا مرتين على امتداد فترات حكمها في هذا القطر أو ذاك .
المرة الأولى؛ عندما جعلتها " شماعة" تعلق عليها أسباب فشلها ، و تبرر بها إخفاقها و عجزها أمام شعوبها عن تطوير بلدانها و إلحاقها بركب الحضارة المعاصرة علمياً و اقتصادياً و سياسيا ؛ فهي مستهدفة دائما _هكذا تصور نفسها و تطبع في أذهان شعوبها _ و أنها في مواجهة مستمرة مع المتربصين بها و الطامعين بالبلاد ، مواجهة تبيح لها كل قمع و تغييب و هضم للحقوق ، تمارسه في حق شعوبها الواقعة تحت حكمها ؛ فلا صوت يعلو على صوت المعركة القائمة ضد المؤامرة الخارجية !!
المرة الثانية ؛عندما استخدمت هذه الحكومات تلك النظرية ذاتها " كفزاعة " للشعوب الثائرة. ترهبها بها ، عبر إلصاق تهمة التآمر مع الأعداء الخارجيين ، بكل حراك جماهيري يطالب بالإصلاح , أو العدالة و الحرية ، مبررة كل أشكال القمع و الترهيب التي تستخدمها في سحق انتفاضات شعوبها، بفكرة مغلوطة مفادها أن " الحاكم هو الوطن " . و بالتالي ، فإن كل قول أو فعل أو معارضة ضده ، هو قول و فعل و معارضة ضد الوطن . أي أن كل حراك جماهيري شعبي ، ينشد التطوير أو التغيير في أي بلد عربي ، يعد " خيانة وطنية عظمى" عند سدنة عروش تلك الحكومات ، يستوجب منها اتخاذ كل ما هو مباح و غير مباح في سبيل إخماد كل صوت و إجهاض كل مطلب ينشد التجديد في الرؤى الفكرية و البنى المؤسساتية و التحتية لأي بلد من بلدان عالمنا العربي ؛ فليس بالإمكان ، في نظر هؤلاء الحكام ، أفضل مما هو كائن أو يكون في ظل حكمهم ، و الواقع الذي فرضوه على شعوبهم لعقود من الزمن .
فهل هناك فعلا مؤامرة كبرى على الوطن العربي من قبل القوى الاستعمارية؟
و هل هذه الأنظمة العربية واقعة حقاً في دائرة الاستهداف ؟ أم أنها تحولت _ بإرادتها أو بغير إرادتها _عبر فلسفتها الظالمة المستبدة في الحكم ، إلى مطية و حصان طروادة لتطبيقات تلك النظرية ، نظرية المؤامرة . ؟
و قبل الجواب على هذا التساؤل المشروع ، أرى أنه من المستحسن أولاً ، أن نسلط الضوء على تلك الثنائية التي مُسخت معانيها ، وتعمدت حكومات الظلم و الطغيان ، المغالطة و الخلط في مفاهيمها ؛ إنهما ثنائيتا : " الحاكم " و " الوطن "، و " الحكومة" و " الدولة " ، ففي معرفة الفرق بين معاني هذه الكلمات ، تفنيد للمزاعم الباطلة و الحجج الواهية التي تتذرع بها هذه الحكومات في قمعها للحركات و الانتفاضات الجماهيرية الحادثة في أوساط شعوبها المقهورة .
بقلم زهران زاهر الصارمي