نشر في جريدتي : الرؤية / العرب اللندنية
النمل .. وما أدراك ما النمل ..؟!
لقد كرم الله تعالى النمل بأن ذكره في القرآن الكريم في سورة سميت باسمه " سورة النمل " بقوله تعالى : ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(النمل: 18)
يُذكر أن النمل من الحشرات الاجتماعية الناجحة مثل: الزنابير، والنحل ، وهو في حالة عمل دائم ومستمر، ويدين بكامل الولاء والانتماء لمملكته ، والنمل يمثل 20% من الكائنات الحية على كوكب الأرض وتبلغ أنواعه ما يقرب من 20.000 نوع من النمل تنتشر تقريبًا في كل مكان في العالم..
ويبدو أن مملكة " النمل " لفتت علماء لوقت طويل وطالما كانت مظاهر حياة هذه الحشرات الصغيرة اهتمام تجاربهم الحثيثة علهم يكشفون غوامض أنظمتها البديعة التي سخرها الله عزوجل لهم ..
في أحدث بحث علمي تطرَّق لعالم النمل العجيب الذي لا تنتهي عجائبه، درس العلماء نموذجًا حيًّا لطبيعة الحياة السياسية بين الملكة والشغالات في مملكة النمل، وشاهد العلماء كيف يكون الصراع على السلطة ديمقراطيًّا.. وكيف تتغلب المصلحة العامة على المآرب الشخصية والنزعات العنصرية في أصغر مملكة في العالم.
وسلَّطت هذه النتائج الضوء على التركيب المعقَّد للحياة الاجتماعية في مملكة النمل ، التي تُعَدّ من أعقد النظم الاجتماعية في عالم الحشرات وأكثرها نجاحًا، وكانت دهشة العلماء كبيرة بعد أن أظهرت دراستهم طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم فيها من خلال الصراع حول تحديد النسبة الجنسية لسكان المملكة ..!
ويعرض هذا الصراع لمحة من الحياة السياسية لمجتمع النمل الذي لا توجد فيه ملكيَّة مستبدَّة مطلقة تحت سيطرة الملكة الأم ؛ حيث الملكة مسخَّرة لتحقيق إرادة نسلها ، كما أن المملكة ليست بجنَّة للشغالات في المقابل.. وأثبت العلماء أن الملكات والشغالات في مجتمع "نمل اللهب" خاصة في اختلاف وتفاوض للوصول إلى اتفاق نهائي حول تحديد نسبة ذكور وإناث النمل المنتجة حديثًا في المستعمرات، للحفاظ على استقرار ومستقبل المملكة. .
وطبقًا لبحث قام به فريق من الباحثين في جامعة "نورث كارولاينا "وتم نشره في مجلة " جورنال أوف ساينس " منذ ثلاث سنوات ، فإن الشغَّالات وملكات النمل عادة ما يتوصلن -عن طريق التفاوض - إلى "حل وسط" في خلافهن المستمر حول نسبة الذكور والإناث ..
الحديث يدور حول نوع من النمل يسمى " النمل اللهب " منشؤه الأصلي هو جنوب أمريكا، ويتسبَّب في خسائر هائلة للاقتصاد، وقد تتسبب أنواع منه في قتل الماشية والبشر في بعض الأحيان، وتُهدد كمياته الهائلة في وسط أمريكا الجنوبية بغزو خطير للولايات المتحدة، ولم تفلح المبيدات الكيماوية في إبادته ؛ لأنه يتميز بمعدلات عالية في التناسل ، حيث تُنتَج مئات من الملكات الجديدة التي تكون كل منهن قادرة على تكوين مستعمرة جديدة.
واللافت للنظر في هذه المملكة التي تغدو أشبه بإمبراطورية أن شغالات النمل كلهن من الإناث ، وهن أكثر عددًا ونشاطًا وعملاً في المستعمرة ، ويقمن عادة بجميع متطلبات المستعمرة من تجميع للغذاء، والدفاع عن المستعمرة، وحمايتها من الأعداء، وتنشئة وتربية الصغار ، أما الملكة فهي التي تقوم بوضع البيض ، وقد يصل عمرها إلى عشرين عامًا، وتُنتَج ذكور النمل وقت الحاجة فقط، ويموت الذكر بعد التزاوج مباشرة.
ويوضح الدكتور " إد فارجو" الأستاذ المساعد في علم الحشرات والمؤلف المشارك في البحث- أن أهمية هذه الدراسة تكمن في أن علماء الحشرات قد ظنوا لعقود طويلة أن الشغالات في مستعمرات النمل يسيطرن سيطرة كاملة على عدد الذكور الذي يُسمَح له بالعيش في المستعمرة ، وذلك عن طريق قتل العديد من الذكور، بينما ما زالوا في طور اليرقة.
وافترض العلماء أن الملكة- بكل بساطة- عبارة عن ماكينة وضع بيض، ولكن الحيرة تملكت العديد من العلماء العاملين في هذا المجال لعقود طويلة ؛ نظرًا لعدم ثبات عدد الذكور بالنسبة للإناث في مستعمرات النمل ، فضلاً عن زيادة نسبة الذكور في بعض المستعمرات بالرغم من هيمنة العاملات الإناث على هذه النسبة. .
ولكن " فارجو" وثلاثة من زملائه الأوروبيين وجدوا تفسيرًا آخر، وحسب تجربتهم العلمية أن الملكة يمكن أن تعدل في نسبة الجنس في مستعمرتها بتحديد عدد البيض المؤنث الذي تضعه، وبذلك تدخل الملكة في نزاع مع العاملات، وفي بعض الأحيان قد تمارس الملكة ضغطًا وسيطرة أكبر على العاملات ، وفي بعض الظروف فإن العاملات يمكن أن يمارسن ضغطًا أكبر على الملكة في المقابل ..
يُشار إلى أن ملكة النمل قادرة على تقرير المصير الجنسي لنسلها بالسماح للمني الذكري المخزون داخلها بتخصيب البيض ، أو إنتاج بيض غير مخصب ، ويصبح بذلك البيض المخصب إناثا وغير المخصب ذكورًا.
كما يشار إلى أن الصراع على السلطة بين العاملات والملكة في عالم النمل يرجع للمصالح والأولويات المختلفة لطرفي الصراع ، فضلاً عن الصفات الوراثية المتباينة ، فللعاملات نظرة عنصرية تتعلق بنوع وعدد الأعضاء الجدد في المستعمرة ؛ نظرًا لطبيعة النظام المُعقّد لتصميم الجنس في النمل والحشرات الاجتماعية الأخرى ، فالعاملات يصبحن أكثر صلة ببعضهن البعض ؛ لأنهن يشتركن في حوالي 75% من الجينات ، وفي المقابل يشتركن بنسبة 50% مع أمهن الملكة ، و25% فقط مع ذكور النمل ؛ لذلك فإن العاملات تفضلن عادة زيادة عدد أخواتهن ويقللن من عدد الإخوة الذكور في المستعمرة.
وفي المقابل تهتم الملكة أكثر بإنتاج الملكات الجديدات، وإنتاج الذكور للتزاوج مع ورثة العرش اللاتي سينشئن مستعمرات جديدة .. والملكة لديها قدرة عالية على المناورة ، فقد تجبر العاملات على قبول الأمر برفع نسبة البيض المذكر في المستعمرة ، وهو ما يجبرهن على قبول الوضع ، ويؤدي إلى زيادة نسبة الذكور رغمًا عنهن وحتى قدرتهن على قتل الذكور بشكل انتقائي فإنه لا يحدث في حالة رغبة الملكة في زيادة عدد الذكور؛ لأن ذلك يهدد ويدمر مصادر المستعمرة المحدودة. .
ومن جهته يؤكد " فارجو" على أن " لعبة شد الحبل" بين الملكة والعاملات تحدث عادة في نطاق المستعمرة ذاتها، وأن المستعمرة تستقر في النهاية على تحديد المهام الخاصة بها للحفاظ على مستقبلها ومستقبل أبنائها، لكن التنافس والصراع بين ملكات النمل يكون شديدًا لضمان بقاء جيناتهن لخلق المستعمرات القادمة. وعلى سبيل المثال فإن الملكة المتواجدة حديثًا في منطقة تتميز بوجود ملكات أخريات ينتجن أغلبية من الإناث، تتجه لإنتاج أغلبية من الذكور، والعكس بالعكس، وسر هذا الأمر المثير ما زال يُشكِّل لغزًا علميًا حتى الآن..
" إمبراطورية النمل " درس آخر من دروس الحياة ، حيث تكفل المواطنة الشاملة والعادلة والحرة البقاء والإستمرارية والخلود لحضارات ممالك وإمبراطورات ودول في كل زمان ومكان ..
ليلى البلوشي