من سعيد الهاشمي إلى أم سعيد:
البرد هنا قارس حد الألم يا أمي، إنني أستذكر الآن يدك الحنون وحضنك الدافئ عندما كُنتِ توقظيني لأول يوم لي في المدرسة. ذاك الصباح البارد البعيد لم يُمح من الذاكرة حتى اللحظة، ليس لأنه تاريخ فاصل لمرحلة جديدة من عمر أي طفل، بل لأني تلقيت منك لحظتها جرعة من الحنان الباذخ يكفي لأن يزهر الكون بأكمله. اليوم أستدعيه، ليخفف عني ظلمات فوق ظلمات؛ ظلمات الفقد وظلمات الوحدة، ظلمات الظلم وظلمات الوحشة. أعلم يقيناً بأنك تبكين الآن، حزينة، مفجوعة في ابنك البكر الذي ما انفكتّ روحك تحرسه بالحب والدعاء والأمل، وما فتئ عمرك يسقيه من ماء العين وخلاصات الفؤاد. أعرف بأنك حزينة لحبسي، وحزينة لحرماني من حريتي التي طالما تلذذت برشفها منك ومن أبي العزيز.
ثمينة هي دموعك أيتها الحبيبة، وعزيزة آهاتك التي تبثينها بحرقة وألم كل لحظة، وتصلني نسيماً حبيباً إلى روحي، يخفف عليّ وعني في هذه الزنزانة الانفرادية البائسة. إنه الثمن الذي تستوجبه الإرادة الحرة يا أمي، ولا مناص إلا من دفعه، وأنا أدفعه عن رضا، وقناعة، وفرح بسبب ما غرسته فيّ يا أمي.
لا تقلقي أيتها الغالية، فأنا بخير، وأكثر من ذلك، فأنا اليوم حرٌ أكثر من ذي قبل. عرفت الظلم عن قرب، واقتربت من الحق أكثر.
التقيت بالحياة كما هي، لا كما أتمنى. التقيت في داخل السجن بشراً لن تتاح لي فرص أن ألتقيهم في خارج السجن وهم بهذه الأرواح الهائلة من الصفاء والتحرر فقد تخلت عنهم أقنعتهم المزيفة. إنهم يقبعون في الزنازن عُراة إلا من ذواتهم وأقدارهم. لقد خذلتهم الجموع المتزلفة التي أوهمتهم بالدعم والتصفيق. الإنسان يا أمي كائن شقي، لا يؤمن بسهولة، وإذا آمن فإنه لا يأمن إيمانه إلا بعد زمن؛ تكون الحياة غادرته أو على وشك أن تفعل ذلك.
أطمئنك على روحي يا أمي، فهي ترى الأفكار بوضوح الآن، وترى الأشياء كذلك. تراها من زاوية تجردت من الأهواء والملذات- عميقة، مصقولة الفكرة عندما تأتيني الآن، بعيدة عن التوازانات، والتحالفات، والإيهامات العقلية المضللة بدوام الحياة الهشة والآمال الورقية. الفكرة يا أمي إذا لم تقترن بقيمة إنسانية رفيعة لا قيمة من حملها أو حتى تمريرها، هي عبء مضاف إلى أحمال العيش الكثيرة واللامنتهية؛ فضلٌ غير حميد وهواء ملوث يحسبه المرء نظيفاً يوسع شعيبات رئته لكنه في الحقيقة يدمرها. الفكرة بلا أخلاق يا أمي حياة بلا قيمة، هدرٌ للعمر، وقدرات العقل الوقّادة. لذا، لا خوف على أولئك الأحرار الذين حملوا أكفانهم على أكتافهم من أجل فكرة نبيلة فيها خير للإنسان، صلاح لأمره وتعزيز لقيمته، ومكانته في هذه الحياة؛ فذاك واجبهم ومهمتهم الأصيلة، وما عداها وهمٌ وسرابٌ لا طائل من الركض وراءه.
وكما تعلمين يا أمي، وكما علًمتِني ذات يوم، وحدها الحرية تستحق الأثمان الباهظة، وأنه بمقدار التضحيات تكون الثمار، وأن الخير لا يستأنس إلا بعطاءات الخيرين وأحلام البسطاء. هذا طريقي الذي أحب يا أمي. صحيح أنه غريب على دنيا الناس، وسيظل غريباً، لأن الإنسان لا يريد أن يذكره أحد بمهمته الأساس، مهمة إعمار الحياة بالحب، والخير، والحق، والجمال؛ لأنها صعبة وشاقة وفيها الكثير من العمل الجاد والتربية الصارمة. هو أميل لخيار التوحش، والسيطرة، والقوة لأنها الأسهل والأكثر قدرة على تضليل الذات الإنسانية، فشهوة السيطرة والاستحواذ دائما ما شكلت نقطة ضعف الإنسان على هذه الأرض؛ فهشاشتها في قوتها، وخرابها في بنائها، وانهزامها يبرز في اللحظة التي يظن الجميع أنها انتصرت. إن الناس، يا أغلى الناس، يا أمي، مشدودون بالظاهر والقشور ولا يرون جوهر الأشياء الذي هو أصل الحياة، ولب استمرارها؛ وسر أسرارها؛ لا يرون الخير- منبعه ومساره إلا بعد عناء كبير وحسرة.
قادمٌ إلى حضنك الرؤوم يا أمي، بل إني لم أغادره يوماً؛ هو الذي يحملني إلى وطني الحلم الذي إليه أسعى؛ وطن الحرية، والعدالة، والإنصاف. جهزي لي قهوتي، وتفاريح طفولتي وغنّ لي هدهداتك التي لن تطويها السنين: "يكبر..يكبر وليدي.. ويجيب لي بسمة..يجيب لي نعمة..يجيبني بلاد في قليبي".
حبي وقبلاتي يا أمي.
يونيو/حزيران 2012 ، زنزانة رقم ب/6 – السجن المركزي بسمائل.19
البرد هنا قارس حد الألم يا أمي، إنني أستذكر الآن يدك الحنون وحضنك الدافئ عندما كُنتِ توقظيني لأول يوم لي في المدرسة. ذاك الصباح البارد البعيد لم يُمح من الذاكرة حتى اللحظة، ليس لأنه تاريخ فاصل لمرحلة جديدة من عمر أي طفل، بل لأني تلقيت منك لحظتها جرعة من الحنان الباذخ يكفي لأن يزهر الكون بأكمله. اليوم أستدعيه، ليخفف عني ظلمات فوق ظلمات؛ ظلمات الفقد وظلمات الوحدة، ظلمات الظلم وظلمات الوحشة. أعلم يقيناً بأنك تبكين الآن، حزينة، مفجوعة في ابنك البكر الذي ما انفكتّ روحك تحرسه بالحب والدعاء والأمل، وما فتئ عمرك يسقيه من ماء العين وخلاصات الفؤاد. أعرف بأنك حزينة لحبسي، وحزينة لحرماني من حريتي التي طالما تلذذت برشفها منك ومن أبي العزيز.
ثمينة هي دموعك أيتها الحبيبة، وعزيزة آهاتك التي تبثينها بحرقة وألم كل لحظة، وتصلني نسيماً حبيباً إلى روحي، يخفف عليّ وعني في هذه الزنزانة الانفرادية البائسة. إنه الثمن الذي تستوجبه الإرادة الحرة يا أمي، ولا مناص إلا من دفعه، وأنا أدفعه عن رضا، وقناعة، وفرح بسبب ما غرسته فيّ يا أمي.
لا تقلقي أيتها الغالية، فأنا بخير، وأكثر من ذلك، فأنا اليوم حرٌ أكثر من ذي قبل. عرفت الظلم عن قرب، واقتربت من الحق أكثر.
التقيت بالحياة كما هي، لا كما أتمنى. التقيت في داخل السجن بشراً لن تتاح لي فرص أن ألتقيهم في خارج السجن وهم بهذه الأرواح الهائلة من الصفاء والتحرر فقد تخلت عنهم أقنعتهم المزيفة. إنهم يقبعون في الزنازن عُراة إلا من ذواتهم وأقدارهم. لقد خذلتهم الجموع المتزلفة التي أوهمتهم بالدعم والتصفيق. الإنسان يا أمي كائن شقي، لا يؤمن بسهولة، وإذا آمن فإنه لا يأمن إيمانه إلا بعد زمن؛ تكون الحياة غادرته أو على وشك أن تفعل ذلك.
أطمئنك على روحي يا أمي، فهي ترى الأفكار بوضوح الآن، وترى الأشياء كذلك. تراها من زاوية تجردت من الأهواء والملذات- عميقة، مصقولة الفكرة عندما تأتيني الآن، بعيدة عن التوازانات، والتحالفات، والإيهامات العقلية المضللة بدوام الحياة الهشة والآمال الورقية. الفكرة يا أمي إذا لم تقترن بقيمة إنسانية رفيعة لا قيمة من حملها أو حتى تمريرها، هي عبء مضاف إلى أحمال العيش الكثيرة واللامنتهية؛ فضلٌ غير حميد وهواء ملوث يحسبه المرء نظيفاً يوسع شعيبات رئته لكنه في الحقيقة يدمرها. الفكرة بلا أخلاق يا أمي حياة بلا قيمة، هدرٌ للعمر، وقدرات العقل الوقّادة. لذا، لا خوف على أولئك الأحرار الذين حملوا أكفانهم على أكتافهم من أجل فكرة نبيلة فيها خير للإنسان، صلاح لأمره وتعزيز لقيمته، ومكانته في هذه الحياة؛ فذاك واجبهم ومهمتهم الأصيلة، وما عداها وهمٌ وسرابٌ لا طائل من الركض وراءه.
وكما تعلمين يا أمي، وكما علًمتِني ذات يوم، وحدها الحرية تستحق الأثمان الباهظة، وأنه بمقدار التضحيات تكون الثمار، وأن الخير لا يستأنس إلا بعطاءات الخيرين وأحلام البسطاء. هذا طريقي الذي أحب يا أمي. صحيح أنه غريب على دنيا الناس، وسيظل غريباً، لأن الإنسان لا يريد أن يذكره أحد بمهمته الأساس، مهمة إعمار الحياة بالحب، والخير، والحق، والجمال؛ لأنها صعبة وشاقة وفيها الكثير من العمل الجاد والتربية الصارمة. هو أميل لخيار التوحش، والسيطرة، والقوة لأنها الأسهل والأكثر قدرة على تضليل الذات الإنسانية، فشهوة السيطرة والاستحواذ دائما ما شكلت نقطة ضعف الإنسان على هذه الأرض؛ فهشاشتها في قوتها، وخرابها في بنائها، وانهزامها يبرز في اللحظة التي يظن الجميع أنها انتصرت. إن الناس، يا أغلى الناس، يا أمي، مشدودون بالظاهر والقشور ولا يرون جوهر الأشياء الذي هو أصل الحياة، ولب استمرارها؛ وسر أسرارها؛ لا يرون الخير- منبعه ومساره إلا بعد عناء كبير وحسرة.
قادمٌ إلى حضنك الرؤوم يا أمي، بل إني لم أغادره يوماً؛ هو الذي يحملني إلى وطني الحلم الذي إليه أسعى؛ وطن الحرية، والعدالة، والإنصاف. جهزي لي قهوتي، وتفاريح طفولتي وغنّ لي هدهداتك التي لن تطويها السنين: "يكبر..يكبر وليدي.. ويجيب لي بسمة..يجيب لي نعمة..يجيبني بلاد في قليبي".
حبي وقبلاتي يا أمي.
يونيو/حزيران 2012 ، زنزانة رقم ب/6 – السجن المركزي بسمائل.19