السبت، 22 ديسمبر 2012

الجزء الثاني من الحوار الرائع .. بين الكاتب نبهان الحنشي . والدكتور. صادق جواد سليمان


نبهان الحنشي

عن الكاتب: نبهان الحنشي

كاتب وأديب عماني
كتب 10 مقالة في مجلة الفلق.
 تكبير الخط تصغير الخط
مصطلحات أساسية
في حوارنا الوطني تتردد مصطلحات أساسية، كالوطن، الدولة، الحكومة، المجتمع المدني، السلطات الثلاث، وما إلى ذلك.  ومع أن هذه المصطلحات واضحة المعنى بوجه عام، إلا أن شيئا من التعريف الأدق لها، وأيضا بعض الشرح للتعالق بينها، قد يساعد على توضح أكثر.  ماذا لديك من تفصيل بهذا الصدد؟
الوطن هو الأصل، وهو بذلك أسبق على الدولة.  الدولة هي الإطار القانوني المنظم للكيان الوطني، وهي بذلك أسبق على الحكومة.   الحكومة هي فريق من المواطنين يعهد إليه ديمقراطيا بحماية الوطن والمواطن، وبالحفاظ على الإستقرار السياسي، إنماء اليسر الاقتصادي، تيسير الضرورات الحياتية، وعموما إدارة شأن الوطني، داخليا وخارجيا، وفق دستور الدولة وقوانينها السارية.  بهذا المعنى، لا يكون للحكومة ثبات الدولة، فهي عرضة للتغيير إذا قصرت في الأداء.  ولا يكون للدولة ثبات الوطن، إذا قرر الشعب تغيير نمطها دستوريا بإرادة إجماعية.  أما الوطن فيبقى كيانا ثابتا حتى في غياب الدولة والحكومة لأجَل، ريثما تنهض دولة جديدة تعيد تنظيم أمره، وضمنها تتشكل حكومة جديدة.  أما المجتمع المدني فهو المواطنون جمعيا في تنظيماتهم التطوعية العاملة لأجل تطوير الخبرة الوطنية وإثرائها في سائر المجالات.
أما السلطات الثلاث فانبثاقها من الدولة، وهي جمعياً ما تتشكل منها الحكومة التي تعهد إليها الدولة إدارة عموم الشأن الوطني.  تفصيل ذلك: عندما يُنظم الكيان الوطني في إطار دولة، يُنظم وفق دستور يولي به المواطنون الدولة سلطة عامة.  تباعا، تفرع الدولة سلطتها العامة في حكومة مؤلفة من ثلاث سلطات: سلطة تشريعية، سلطة تنفيذية، وسلطة قضائية.  وفق دستورها تنظم الدولة العلاقة بين السلطات الثلاث على مبدأ الفصل من جهة،  ومبدأ التعاون، من الجهة الأخرى، معا في ترادف.  مبدأ الفصل يحول دون تفرد أية سلطة بصنع القرار الوطني.  مبدأ التعاون يلزم السلطات الثلاث بصياغة القرار الوطني بمنهجية الشراكة المؤسسية ما بينها.  بالمبدأين معا يتحقق مطلب ممارسة الاجتهاد المتوازن والمتكامل في الشأن الوطني.
إجمالا، تعتبر السلطات الثلاث متكافئة، إلا أن السلطة التشريعية ترتب الأولى دستوريا لكونها الجهة المشرعة لكل ما يتصل بالشأن الوطني، وكونها أيضا مصدر تجويز التمويل وتحديده لكل ما يشرع وتباعا يوكل للإنجاز من قبل السلطة التنفيذية.  السلطة التنفيذية هي التي تتشكل ضمنها الوزارات تحت مجلس الوزراء الذي يعمل بمسؤولية تضامية.  الوزارات وسائر الأجهزة التنفيذية في الدولة تخضع لمراقبة  ومساءلة من قبل السلطة التشريعية المتخبة، على نحو مستدام.  أما السلطة القضائية فمجالها ضمان تطبيق العدالة بين الناس، النظر والحكم في دستورية القوانين، وتفسير منطوق الدستور في أيما نزاع يقع حول ذلك بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.   يُمارس هذا كله عبر محاكم متدرجة المراتب، تنتهي صعودا عند محكمة دستورية عليا لا يقبل حكمها طعنا أو نقضا من أي من السلطتين، التشريعية أو التنفيذية، أو منهما معا.
*الإصلاح والتطوير
يتردد في حواراتنا الوطنية أيضا مصطلح الإصلاح حينا ومصطلح التطوير حينا  آخر.  ما مفهوم كل منهما تحديدا، وما العلاقة بينهما في عملية التنمية الوطنية؟
الإصلاح عملية اجتماعية تنموية حياتية.  لا يوجد مجتمع لا يحتاج لإصلاح أوضاعه على نحو مستدام.  بهذا المعني، الإصلاح لا يعني مجرد إصلاح ما هو معطوب، بل أيضا رفع صالح لأصلح.  التوجه الإصلاحي يعني استمرار هذه العملية الحيوية: مرد ذلك أن الاجتهاد الإنساني لا يخرج كاملا أو حتى وافيا في معظم الحالات، لذا، تباعا، يستوجب الاستدراك بالإصلاح، ومن ثم التطوير.  بهذا المعنى الإصلاح والتطوير مترادفان في الاتجاه والقصد، سوى أن التطوير لا يكون إلا في أمر سليم البنية والمنطلق في الأساس.  خلاف ذلك، الإصلاح يسبق التطوير، بمعنى أن التطوير لا يكون لأمر أو وضع لا يكون صالحا في الأساس.
*معايير اختيار الأشخاص
ما هي أهم معايير اختيار الأشخاص لمواقع العمل، بالأخص في المراتب القيادية، أكان في القطاع العام أو القطاع الخاص؟
أهم معايير الاختيار تاريخيا وعالميا أثنان: الكفاءة  والأمانة.  لا يجدي اعتبار الكفاءة وحدها، كما لا يجدي اعتبار الأمانة بمعزل عن الكفاءة.  حيثما لا يُحرص على تلازم المعيارين معا لا يأتي الأداء سليما أو وافي العطاء.  الشخص الكفؤ الناقص في الإمانة  ينتج، لكنه يستغل لنفسه بعض ما ينتج، لذا لا تكون الاستفادة منه كاملة، بل قد تكون المضرة أكبر.  الشخص الأمين غير الموفور في الكفاءة لا يستغل، لكنه يقصر في الإنتاج، لذا لا تأتي الاستفادة منه كاملة، بل قد تكون الخسارة أكبر.  في القرآن الكريم توجيه إلى الأخذ في الاعتبار التلازم بين المعيارين في اختيار من نستأجر لأيما عمل: يأتي هذا في نصح ابنة حصيفة أباها المسن حول استئجار شخص غريب، لكنه قوي (كفؤ) وأمينٍ: ( يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويُ الأمين).
*الإعتصامات
شاركت في الاعتصامات ربيع عام 2011 بالحضور مرارا إلى اعتصام ساحة الشعب، وبالحديث هناك من المنبر في  بعض الأحيان.  بنظرة خلفية، ما تفييمك لتلك التجربة، وما هي أهم الانطباعات التي خرجت بها من خلال مشاركتك بهذا الشكل الوثيق؟
بتقديري، أهم ثمار الاعتصامات الشعبية السلمية خلال الربيع العماني عام 2011 كان ولا يزال:   تحرر الحوار الوطني واستطراد تطوره.  خلال أسبوع من مطلع مارس، حواراتنا التي بدأت عفوية في مختلف ساحات الاعتصام عبر الوطن، نشطت لتكتسب وتيرة حيوية، نبرة صريحة، ونهجا جادا في التباحث حول عموم مساحات الشأن الوطني.  في ساحة الشعب (إزاء مبنى مجلس الشورى)، كان التوافد ابتداء دونما هدف بيّن، لكنه سرعان ما اتسم بحضور منتظم، هادف إلى تكثيف الحوار الوطني، توسيعه، وتعميقه.  بعد بضع أمسيات من التحادث عرضيا ما بين تجمعات متفرقة وقوفا هنا وهناك، تطور المشهد في الساحة إلى منتدى جامع راجت فيه خطابات وندوات ومناظرات ومناقشات … كل ذلك وسط احتشاد متزاخم ليليا ظل يشكل على امتداد أشهر ملتقى حافلا لم يشهد مجتمعنا العماني حدثا مدنيا مثيلا له من قبل.
من وجه آخر، أتاح التجمع، على نحو مستطرد، فرصة للتعارف بين الحضور، مبديا أكثر فأكثر للمتعارفين  مدى تماثل تقييمهم للأمور: تحديدا مدى امتعاضهم مما صاروا يلمسون من قصور اعترى تراكميا أداء الجهاز الحكومي، ومن تقصير شاب نمطيا أداء كبار المسؤولين.  استبانوا أيضا مدى توافق نظرهم حول ضرورة مكافحة الفساد، وتفعيل مهمة الإصلاح، بشكل ناجع وشامل.  إلى ذلك ناقشوا ماذا ينبغي أن يُعمل لرفع  الأداء الحكومي عامة إلى ما هو أجدر كفاءة وأضمن أمانة، ليكون بذلك أكثر إيفاء بحقوق المواطنين، أكثر إنصافا إزاء توزع الناتج الاقتصادي الوطني بينهم، وأكثر تركيزا على استحقاقات التنمية الانسانية كهدف مركزي وجب أن تتمحور التنمية الاقتصادية-الاجتماعية حول غاياتها الإنسانية.
من بعد التعارف اجتماعيا، صار المعتصمون يتعارفون وطنيا، أي من خلال التكاشف عن عمق إحساسهم المشترك بضرورة أن تسود في الوطن المواطنة المتساوية بين الجميع.  بذلك عدّوا المواطنة المتساوية بمثابة عقد اجتماعي يساوي الأرضية التي تترتب عليها منظومة الحقوق والواجبات ضمن الحاضن الوطني.
حب الوطن، والقناعة المشتركة بضرورة تطوير منهجية اتخاذ القرار الوطني إلى ما هو أوفى وأمثل، ترادفا في الحوار.  إلى ذلك، جاء التأكيد على مكافحة استغلال الموقع الوظيفي في الدولة للاستثراء الشخصي،  تحسين الأحوال المعيشية للمواطنين ذوي الدخول المتدنية،  تدريب الشباب وتوفير فرص العمل لهم على نحو مستدام،  ترشيد الاقتصاد كأهم آليات توفير المورد وتحقيق عدالة توزع الأرزاق بين الناس، إصلاح مناهج التعليم،  زيادة فرص التعليم العالي، تيسير إنجاز معاملات المواطنين لدى الدوائر الرسمية دونما وساطة أو محاباة،،  ضبط قنوات الإسراف والتبذير من المال العام في أوجه زخرفية …  كل تلك ظلت تباعا موضوعات متصدرة في حوارات المعتصمين، وعلى ما تابعت، سرعان ما استدرت بعضها تجاوبا إيجابيا من الحكومة.
وسط ذلك، تردد مطلب جذري: تعديل البنية الدستورية للدولة كمدخل شامل لتفعيل التوجه الإصلاحي، ومن ثم تمكين الدولة من ممارسة اجتهاد وطني مؤسسي سديد ومتكامل.  تحديدا، خمسة مطالب  دستورية تفرعت عن هذا المطلب الأساس، وعرضت في الخطابات منذ بداية الاعتصام: أولا: أن توضع للدولة أرضية دستورية جديدة، بمعنى أن يكتب دستور جديد.  ثانيا: أن يصحح وضع مجلس عمان في اتجاه تطويره إلى سلطة تشريعية حقيقية، وإلى ذلك، كخطوة أولى، رفع الوصاية عن مجلس الشورى لرئيس معين.  ثالثا: أن تكون للدولة حكومة قائمة بذاتها  تعمل بمسؤولية تضامنية، وقابلة لسحب الثقة منها إن هي أساءت أو قصرت في الأداء.  رابعا: أن تكون للدولة سلطة قضائية، بمعنى قضاء مستقل أعلاه محكمة دستورية لا تعلوها سلطة أي شخص أو هيئة.  خامسا: أن يكون سلطان البلاد حكَما أعلى يحتكم إليه في جميع القضايا لدى الاقتضاء.
طوال  فترة انعقاده ظل الاعتصام بساحة الشعب منظما ومنضبطا بامتياز.  كان الحرص على سلامة المشهد وسلميته، وتنسيق كل ما يتعلق به من أمور إجرائية، دقيقا وصميما في جميع الأوقات.  مع تكرر تواجدي في ساحته، لساعتين أو أكثر كل ليلة حضرت، لم أشهد حدثا مخلا بالنظام، أو خصاما معكرا للوئام الاجتماعي.  على العكس، في عمق المشهد كنت أشعر بتعزز الثقة المتبادلة بين المتحاورين، وبتنامي الإطمئنان بينهم إلى التكاشف حول الشأن الوطني ولزومياته الإصلاحية.  وإذ تكررت مشاركاتي، مرارا كمستمع، وأحيانا كمتحدث، صرت ألمس تعمق الوعي لدى المعتصمين حول الترابط العضوي بين ما لهم من حقوق المواطنة وما عليهم من واجباتها: وعي طالما أشير له في أدبيات علم السياسة أنه الظاهرة  التي إذا عمت  في أيما مجتمع وطني مكنته من إنجاز تقدم حضاري جدير وجامع.
إجمالا، في عموم أطروحاته، ارتكز حوار المعتصمين بساحة الشعب على مبدأين صنوين: أولهما: تثمين ما تحقق من معطىً تنموي مشهود في وطننا حتى اليوم، وثانيهما: انطلاقا من هذا الذي تحقق، الدفع نحو ما نطمح إلى تحقيقه استطرادا لهذا العهد الميمون … كل ذلك أيضا وفق ضابطين صنوين، أولهما: بقاء منهاجنا في العمل الوطني قائما أبدا على التحاور والتعاون وصولا إلى توافق وطني، وثانيهما، بقاء جميع مساعينا الإصلاحية موصولة أبدا بصميم الحرص على الحفاظ على الأمن والاستقرار وسلامة المنجزات الوطنية، مع دوام حرص مماثل على توطيد الوئام الاجتماعي في رحاب المواطنة المتساوية بين الجميع.  نعم، في سياق الحوار، من حين لآخر، كان يسمع كلام غير دقيق، حاد النبرة، خشن العبارة، انفعالي الأسلوب، متدني العبارة.  لكنه كان يُمرر مرور الكرام، دون كثير التفات إليه، أو أنه يرد عليه بموضوعية معرفية، وبحكمة ورصانة.  عكس ذلك كان يحصل عندما تقدم عروض معرفية بأسلوب رزين.  عندها كنت ألاحظ ليس حسن الإصغاء فحسب، بل أيضا، من خلال الحوار العام، صميم الرغبة في مزيد من الاستنارة  حول عموم الاهتمامات الوطنية.
*القيادة والريادة
في محاضرة  لك في الرستاق قبل سنوات  مايزت بين القيادة والريادة، وعلى ما أتذكر قلت أن القيادة تكون لقلة قليلة بينما الريادة متاحة للجميع.  هلا شرحت ذلك؟
دعني ابتداء اعرف الشخص المثقف، كون القيادة والريادة سويا تنبثقان من قدراته وقابلياته.   بالمثقف، في أيما مجتمع، أقصد الشخصَ الموفورَ في معارف عصره  وأيضا بأوضاع وطنه وشعبه، ومَن بذلك، في اجتهاده في استبيان مقتضيات الصالح العام،  يمتلك قابلية التمييز معرفيا بين ما هو صحيح وما هو خطأ،  ما هو نافع وما هو ضار، ما هو صالح وما هو فاسد.  هو أيضا شخص مدرك للدور الذي ينتظر منه وطنيا، إن كان على صعيد القيادة أو صعيد الريادة.
الدور القيادي قد يكون له وقد لا يكون،  أما الدور الريادي فهو متاح له في جميع الأحوال.  ذلك أن القيادة تنطوي على تولي زمام الأمر العام بتفويض من الشعب، تدبير الأمر العام، واتخاذِ قرارت إزاء مختلف تفريعاته التنظيمية والتطبيقية.  أما الريادة فلا تنطوي بالضرورة على أي من ذلك.  إنها بالأحرى أداء يتسم بالمبادرة والإبداع:  بمعنى أن الرائدَ، من موقع معرفيٍ متقدم، وبحافز وطني صميم، يشرح وينصح، وعمليا يطبق ما ينصح به من أخذ المبادرة وممارسة الإبداع من أيما موقع عمل.  فالمدرّسة يمكن أن تكون مدرسة رائدة، والأداري يمكن أن يكون إداريا رائدا، والممرضة يمكن أن تكون ممرضة رائدة، والمهندس يمكن أن يكون مهدسا رائدا، وهكذا في كافة مجالات العمل على المسرح الوطني.
من وجه آخر، الدور الريادي يتطلب من المثقف أن يتدارس الواقع موضوعيا، أن يسعى دأبا لأجل إصلاحه وتطويره، بدل أن يظل متذمرا منه ومتعاجزا إزاءه … أن يستطلع المستقبلَ، يرصد بلورته، ويساهم في تشكيله نحو الأوفي والأمثل، على الأقل في مجال العمل الذي يؤديه، بدل أن يبقى حالما بما يرغب أن يتطور المستقبل نحوه، أو متمنيا أن يعود الحاضر على شاكلة عصر سلف.  في ضوء مثل هذا النظر الموضوعي  للأمور والأحوال، بمثل هذا التعامل العملي المحسوّب بدقيق التفنيد والتحليل، سيكون بإمكان روادنا، مواطنين ومواطنات، أن يبصروا الأمة بما يرون … أن ينصحوا بما ينبغي أن ننتهجه على المسار الوطني، وما ينبغي أن نعزف عنه وتحاذره … بمعنى آخر:  أن يضعوا أمام الأمة رؤى سديدة لما هو واقعٌ معطوب ولما هو بديل منشود.  في ذلك، كل منهم من موقعه في الحياة الوطنية يغدو، كما قيل قديما في أدبنا المأثور، الرائدَ الذي لا يكذب أهلَه.
كاستتباع مثيل، من الريادة ينبغي أن تنشأ القيادة، لذا على مثقفينا أن يمارسوا الريادة لكي يتأهلوا لأدوار قيادية.  بتعبير آخر، على مثقفينا أن يفكروا لأجل الأمة، ويعرضوا أفكارهم برصانة ودقة ووضوح، فالأمة التي لا يفكر لها أهلها تنقاد لما يفكر لها الغرباء.  أيضا، الأمة التي تهمش دور الفكر تُهمّش  دور العقل، وعمليا تلجم عنصر المبادرة والإبداع.  هي بذلك تطلق سياق انفعال قد ينزلق إلى انفلات مرارا ما تغدو الشعوبُ جراءه ضحايا فتنٍ، وتتحوّل الأوطان بسببه إلى بؤرِ صراعاتٍ مهلكة تتهافت على تأجيجها أطراف مغرضة متربصةٌ.
*المال العام
ما تعريفك للمال العام؟
المال العام هو كل الموجودات الوطنية، المنقولة وغير المنقولة،  التي هي ملك للشعب جمعياً، بحيث يتساوى في الاستفادة منها كافة أهل الوطن، أكان في إطار الحقوق أو وفق اعتبارات استحقاقية.  الحقوق لا تتفاوت بين المواطنين، أما الاستحقاقات فتتفاوت حسب الاقتضاءات المبررة لها بناء على معطيات موضوعية مشروعة.  المهم هنا أن نمايز بين الاثنين، فلا نطالب بالحقوق على استحياء  وكأنها مجرد استحقاقات، ولا نطالب بالاستحقاقات بمثل الإصرارية التي يجب أن نطالب بها بالحقوق.

*الخصوصية الوطنية والعمومية العالمية
 برأيك، هل يشكل التأكيد المبالغ على “الخصوصية” عاملا سلبيا على مسار التطور السياسي في الحالة العمانية، خاصة وأنها تتخذ ذريعة من قبل بعض من هم في مواقع المسؤولية لصد  توجهات التواؤم مع المعايير العالمية في مجال ضوابط الحكم؟
في العالم المعولم الذي نعيشه اليوم لا توجد خصوصية للدول على نحو مطلق، أو قل على نحو ما كانت لها سابقا.  اليوم جميع الدول مطالبة، بل هي بذاتها متعهدة، من خلال انتمائها المشترك للمنظمات العالمية وانتسابها للمعاهدات الدولية، بالالتزام بضوابط الحكم الرشيد الضامن للممارسة الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان، وتباعا  حقوق المواطنة، دونما تمييز على أساس حسب أو نسب أو جنس أو جاه اجتماعي أو موقع سلطوي.  بمعنى آخر، جميع الدول على توافق حول المبادئ والقيم التي تصلح وترتقي بها الخبرة الإنسانية في كل مجتمع وطني.  وهي لأجل رصد الالتزام بتلك المبادئ والقيم المشتركة، تتبادل ما بينها، في إطار الأمم المتحدة، تفحص سيرة كل دولة على حدة، مرة كل أربع سنوات، في مجال تطبيق حقوق الإنسان: United Nations Universal Periodic Review.  وضعنا في عُمان مر بمثل هذه المراجعة في جنيف في مطلع هذا العام.
أضف إلى ذلك، جل مساحات الحياة الوطنية في أيما دولة عصرية أضحت معولمة بامتياز.  المستشفيات تبنى وتدار بنفس المواصفات في كل بلد، نظم التعليم في كافة مراحل التعليم هي ذاتها عبر العالم.  المواد العلمية التي تدرس في المدارس والجامعات هي ذاتها المستنبطة باجتهاد إنساني عالمي مشترك. المواصلات، الاقتصاد، التجارة، الصناعة، السياحة، الإعلام، الرياضة، التسويق، وسائل السفر والنقل داخليا وخارجيا، تيسير أداء الشعائر الدينية، تنظيم أجهزة الدولة بما فيها المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية والجهاز الأمني الداخلي …كل تلك وسواها من سائر الأنشطة والنظم ضمن أيما دولة،  في عصرنا تتشكل وتسري وفق مناهج معولمة، ممكّنة بالمعرفة الإنسانية وتطبيقاتها الإبداعية المتوسعة باطراد، ومتوائمة مع المبادئ والقيم المتوافق عليها إجماعيا بين الأمم من خلال المواثيق المبرمة والقانون الدولي.
نعم، رغم العولمة، تبقى خصوصيات الشعوب في ثقافاتها المتميزة بعضها عن بعض: تبقى في لغتها، أدابها، فنونها، أعرافها، أنماط سلوكياتها الاجتماعية، وانتماءاتها الدينية.  لكن، لا في مجال المبادئ والقيم الإنسانية، ولا في مجال المعرفة المتفتقة عن الاجتهاد الإنساني وتطبيقاتها التي يدار بها جل الحراك الإنساني عبر العالم… لا في هذه ولا تلك هناك خصوصية لا تزال واردة، معنويا أو عمليا، لأيما دولة أو مجتمع في عصرنا المعولم.

*العلاقات مع الولايات المتحدة
ما هو مستقبل العلاقات العربية-العمانية مع الولايات المتحدة … كيف تراها وتقيمها من منظور التغييرات السياسية الجذرية الحاصلة في بعض البلاد العربية؟

العلاقات العربية، بما فيها العلاقات العمانية تحديدا، مع الولايات المتحدة، سائرة سيرا  حسنا، على نمط أحسبه، في الغالب الأعم، مَرضيا لدى جميع الأطراف.  لذا، في المدى المنظور لا أرى لها أي تحول سلبي، كما لا أرى مبررا لحدوث أي تحول سلبي.  في الحاضر العلاقات تتسم بقدر مشهود من التفاهم، وأيضا التعاون في مجالات عديدة، منها مجالات حيوية، كالأمن والتجارة والاقتصاد.  أضف إلى ذلك أن عددا من الدول العربية لا تزال تتلقى مساعدات مالية من الولايات المتحدة، ولا تحب أن يقطع عنها هذا الرافد المالي.  طبعا، العلاقات مع الطرف الأمريكي تتفاوت حجما وغزارة نسبة إلى كل طرف عربي على حدة.  في قراءتي، دول الربيع العربي بدورها لا تخرج عن مثل هذا النسق.  بناء عليه، لا أرى العلاقات العربية الأمريكية إلا في سياق تطور أكثر إيجابية في المستقبل المنظور.

*العلاقات العربية الإيرانية
 هل تعتقد أنه آن الأوان لوجود علاقات عربية إيرانية استراتيحية؟
موضوعيا، لا أرى المناخ السياسي المتوتر بين إيران ومعظم الدول العربية في هذا الحاضر مهيئا لمثل هذا الخيار.  لذا أرى أن تبقى العلاقات الاعتيادية بين الطرفين سالكة بالحسنى، على قاعدة لا ضرر ولا ضرار.  في كل الأحوال، قول سلطاننا المأثور قبل سنوات، ما مفاده: إيران دولة لا ينبغي أن نعاديها ولا أن نتجاهلها كجار وصديق … ينطوي على حكمة جديرة بالنظر الجاد لدى حكومات الدول العربية.

*الوضع السوري
 ما تقييمك للأحداث السورية الحالية … وهل بات وصف ” ألثورة ”  صالحا للمعارضة هناك بعد أن تحولت للعمل العسكري؟
في أبسط العبارة، هي أحداث مأسوية للغاية.  الفتن الأهلية هي أدهى ما يمكن أن تبتلى بها  المجتمعات … حيث رحى الموت تطحن المذنب والبريئ بلا رحمة، وحيث آليات التدمير تقضي على الأخضر واليابس دون اكتراث.  هي مأساة مزدوجة: أن يستمر شباب العرب من الجبهتين في الاقتتال بين بعضهم بمثل هذه الضراوة الفاتكة على طول هذه المدة،  وأن يعجز كبار العرب عن وضع حد لهذه الفتنة … ان يظلوا متفرجين: متوقعين من غيرهم  إنهاء الاحتراب وإيجاد الحل لأجل إنقاذ الشعب السوري من ويلات هذه الحرب المهلكة، وإعادة الوطن السوري إلى وضع طبيعي.
أما وصف المعارضة ب ” الثورة ” فلا أراه يُستثنى بمجرد وجود عامل اللجوء للعمل العسكري. الثورة تعني القيام بكفاح  سلمي أو مسلح هدفه نقض الأمر الواقع واستبداله بوضعية جديدة بمبادئ جديدة ومقاصد جديدة.  في التحليل الأخير، صدقية الثورة لا تظهر تماما أثناء سريان فعاليات الكفاح، سلمية كانت أو حربية، وإنما تظهر بعد نجاحها بمعيار ما يلتزم المكافحون بالمبادئ التي أعلنوها،  والمقاصد التي تعهدوا بإنجازها، بعد إنجاز الغلبة والنجاح.

*تفعيل الدستورية في العمل السياسي
ما هو الطريق الأمثل لتفعيل الدستورية في العمل السياسي وفي مؤسسات الدولة بعد ما شهدنا استجابة سلطان البلاد لبعض المطالب التي تضمنتها اعتصامات ربيع 2011، مثل صلاحيات مجلس الشورى؟

الطريق الأمثل، ابتداء، هو نشر الوعي حول أهمية البناء الدستوري، شرح الأدبيات  الدستورية من خلال مختلف الفعاليات الثقافية، والتأكيد دأبا على ضرورة أن يتسق الأداء الوطني، من قبل جميع مؤسسات الدولة، وفي كافة ما يشرع من قانون جديد أو يعدل في  قانون سارى … أن يتسق كل ذلك مع أحكام الدستور.
على أن الدستور نفسه لا يستثمى من المراجعة، إذ لا يوجد دستور كامل أينما كان، وفي الحالة العمانية هناك أمور دستورية أساسية لا تزال تنتظر المراجعة والتعديل، وهي من قبيل ما أوردتها تحديدا في مطلع هذه المقابلة.
أما الصلاحيات الممنوحة لمجلس عمان فهي لا تزال دون تمكين المجلس من ممارسة الوظيفة التشريعية على نحو مباشر وأصيل، بمعنى تمكين المجلس من ممارسة التشريع  تقريريا في إطار الشراكة وليس تمهيديا بمجرد رفع توصيات.  أضف إلى ذلك أن نصف مجلس عمان، تحديدا مجلس الدولة، لا يزال يفتقر إلى  شرعية التمثيل بالانتخاب.

*الدستور التعاقدي
كان لك رأي عبرت عنه في حوارات خاصة، وربما أيضا في أحاديث عامة، وهو أنك لا ترى إعادة ترتيب البيت العماني مستقبلا على أساس دستور تعاقدي.  هلا شرحت منظورك في هذا الصدد؟
الدستور التعاقدي يعني دستورا  قائما على أساس تعاقد بين الشعب كطرف، والحاكم كطرف مقابل، : بمعنى أنه دستور ثنائي المرجعية من حيث أنه يقيم الدولة وينظم الشأن الوطني في إطار تعاقد بين مرجعيتين مستقلتين.  بنظري ثنائية المرجعية من شانها إفراز تنازع مستدام حول مختلف محاور السلطة والصلاحية في مجال تقرير الشأن الوطني بين المتعاقدين.  خير، بنظري، أن يركن نظام الدولة عندنا مستقبلا إلى مرجعية موحدة، وهي المرجعية الشعبية، ثم ضمن الدستور القائم على أساس المرجعية الشعبية  ينظم عموم الشأن الوطني، بما في ذلك سلطات الحاكم وصلاحياته من جهة، وتحديد أدوار مؤسسات الدولة في أطر السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، من الجهة الأخرى.  غني عن الذكر أن ديمقراطيات العالم المعاصر تقوم على أوحادية المرجعية، وهي تحديدا مرجعية الشعب.


سؤال أخير: كونك دبلوماسيا سابقا قمت بعمل هام في ديوان وزارة الخارجية وأيضا مثلت الدولة كسفير في أكثر من موقع خارجي، إلى جانب ما لديك من معرفة وخبرة في العمل العام، كإسهامك في تأسيس مركز الحوار العربي في العاصمة الأمريكية … لماذا صادق جواد بعيد اليوم من أي عمل سياسي في الدولة؟
في وقتي، خلال السبعينات وقسط من الثنمانينات، أوتيت فرصة الإسهام في العمل الوطني، ومع قلة الخبرة والرصيد المعرفي لدي وقتذاك، أرجو أن أكون أديت عملي على نحو مرضى بمعيار ما امتلكت من كفاءة محدودة جدا في تلك المرحلة.  أما اليوم ، وقد اقتربت من محطة ” ثمانين حولا ”  فلست أراني راغبا في، ولا عمليا قادرا على، تأدية إي مهام جادة تتطلب جهدا متواصلا وانضباطا دقيقا في الوفاء بسائر التزامات العمل الرسمي.
من وجه آخر:  أرى جيلنا المتبوء مواقع المسؤولية اليوم، رجالا ونساء، أكان في القطاع العام أو القطاع الخاص، أكثر تأهيلا وأنشط همة وأوفي دراية  بالأمور.  في جيلنا هذا أرى كفاية وكفاءة تغنيان عن اجترار خبرات من هم في مثل تقدمي في العمر… سوى اللهم  في مجال محدود جدا، مجال الاستشارة عند الاقتضاء في أمر محدد أو آخر.  أضف إلى ذلك أن تركيزي المعرفي منذ أن تركت العمل الدبلوماسي في أواسط الثمانينات ما عاد  في مجال السياسة (مع أن تحصيلي الأكاديمي هو في  مجال السياسة الدولية العامة)، وإنما ارتسى في  دراسة الدين والفلسفة، ولا يزال هناك.  ***

ما رأيك في نتائج الاعتصامات الشعبية السلمية التي حدثت في فبراير 2011،ولازلنا نحصد نتائجها في الأثر السياسي الإيجابي للآن؟
بتقديري، أهم ثمار الاعتصامات الشعبية السلمية خلال الربيع العماني عام 2011 كان ولا يزال تحرر الحوار الوطني واطراد تحرره.  خلال أسبوع من مطلع مارس نشطت حواراتنا التي بدأت عفوية في مختلف ساحات الاعتصام عبر الوطن لتكتسب سريعا وتيرة حيوية، نبرة صريحة، ونهجا جادا في التباحث حول عموم مساحات الشأن الوطني.  في ساحة الشعب كان التوافد ابتداء دونما هدف بيّن، لكنه سرعان ما اتسم بحضور منتظم، هادف إلى تكثيف الحوار الوطني، توسيعه، وتعميقه.  بعد بضع أمسيات من التحادث عرضيا ما بين تجمعات متفرقة وقوفا هنا وهناك، تطور المشهد إزاء مبنى مجلس الشورى إلى منتدى جامع راجت فيه خطابات وندوات ومناظرات ونقاشات تفاعلية.  كل ذلك وسط احتشاد متزاخم ليليا ظل يشكل على امتداد أشهر ملتقى حافلا لم يشهد مجتمعنا العماني حدثا وطنيا عاما مثله من قبل.