الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

مجلة الفلق الإلكترونية / سمعتُ من يتهم العشاق بالأحقاد!/ مقال .. للكاتب الرائع / إبراهيم سعيد / سلطنة عمان


إبراهيم سعيد

عن الكاتب: إبراهيم سعيد



 تكبير الخط تصغير الخط
 (يهطل المطر في الصيف، المطر بشارة حسنة لزمن أجمل من الربيع.
 المصوّرُ في غرفة التحميض المظلمة مشغولٌ بإظهار الصور الجديدة،
الكاتبة في المكتب تكتبُ أفكارها الجديدة واستنتاجاتها،
القاص يفكرُ في قصةٍ جديدة،
الباحث يتحقق من مسألة ما جديد،
الشاعر يؤلفُ قصيدة جديدة،
العامل يعملُ ويحلم.. كلهم يأتون بأشياء جديدة في نفس الموضوع، من كل مكان دون استثناء.. كالسحاب المشترك الذي يأتي بمطر الوطن.)
حين كنا نضيع في طرقات هذا الدهر كانت بلادنا هي التي تقود بأيديها مرات كثيرة، فإذا تهنا واختلفنا وتنازعنا بيننا أمرنا فلنلتمس إذن من يديها الهدى، ولا نلتمس من سواها.
عمانُ بلادٌ لها كرامات ولها سحرٌ طاهرٌ في الحياة، يسميهِ من يجهلهُ من البسطاء سحراً وعمل مشعوذين، ويسميه من يجهله من الغرباء بساطة ساحرة وخلابة؛ بينما نعلم نحنُ جميعاً أنهُ من كراماتها هي: أم المتصوفين وأهل علم الماورائيات والقوى الخفية. بلادٌ من سحر الجمال، وأرضٌ من المعاني الرفيعة.
نحترم القانون، ليس حباً في القانون، وإنما حباً في العدل. حبنا للعدل انما هو احترامٌ للجمال الذي في النظام، وتقززاً من حقارة الفوضى.
سمعت من يهددنا باعتقال أحبتنا وأصدقائنا ومعارفنا وفنانينا ومفكرينا وشعرائنا وكتابنا وروائيينا، سمعت من يقول أن اعتقال أملنا سيجعلنا نتخلى عن الأمل في وطننا، لكن لعل المتكلم نسي أن وطننا هو حياتنا أيضاً.
تسجنُ رجالاً ناصعين فيسري ذكرهم في البلاد، كالعطر، ويذمك الناس ويسائلونك لماذا تسجن العطر؟ وأنت تفتش عن التبرير.. والتبرير ثقيل يحتاجُ أسابيع كي تتمكن من ربطهِ وقوله في الكلمات. بسبب حجمه الكبير الذي لا يدخل في حيز العقول.
الليبراليون ليسوا أحراراً، الإخوان هم الشيوعيون، والشيوعيون هم المتطرفون، والمتطرفون هم نجوم السينما.
مجردُ أرواح تبحثُ عن العيش في الوطن، والوطن أرضٌ شاسعة عبارة عن فكرة في قلبٍ وعقل. تنعش الروح.
سمعتُ اليوم من يتهم الشباب، يساوم فيهم على حب الركن الثالث من أركان الوطن، بدعوى أنهم أصحابُ أفكارٍ وأفعالٍ جديدة. دعوني أسألُ المدعي: ومن أنقذ بلداننا طوال تاريخها إلا الأفكار الجديدة؟!
أليسوا هؤلاء هم أنفسهم الذين منذ عام حينما كانوا يُقتلون في الشوارع ويعتقلون ويضربون ويهانون، يرفعون صورة السلطان في ساحاتهم؟ وكم حاول المغرضون نزع تلك الصور من ساحاتهم. بالتحريض والإساءات والنبز وافتعال المشاكل.
سُجنوا وعذبوا وحكم عليهم بالسجن المديد، ولم يسامحوا على أبسط هفواتهم وأقل عثراتهم، ضاقت الواسعات عليهم وعلى أصواتهم وعلى كتاباتهم ومفكريهم وشعرائهم وأدبائهم وفنانيهم ومبدعيهم بينما هم لا يفتأون يقولون: الوطن الوطن.
حين كان حب الوطن تمسحاً بالجدران، وتزلفاً وكذباً ورياءاً وجشعاً وطمعاً حد الخيانات الكبرى من أجل المال، والسلطة والصفقات الكبرى والصغرى والملذات والأطايب، أو خوفاً ورغبةً في فتات موائد مؤقته، كان هؤلاء العشاق يعملون في الشارع والمقهى والنادي الاجتماعي والحديقه والشاطئ كي يداووا أمراض الفقراء والمساكين والبائسين واليائسين ويبلسموها بالخير مما يملكون من جهد ووقت ومما آتاهم الله من فضله؛ على قلة ذات اليد، لكنهم كانوا يمسحون أمام أعين الناس المتعبةِ الغبارَ عن صورة عمان، يمسحون عنها بجمال أفكارهم وأفعالهم الغبار والقتام والأخطاء غير المسئولة وتكبر المسئولين وتعاليهم على بسطاء الناس.
كانوا يزرعون بأفعالهم في الناس الأمل بغد الوطن.
حين كانت صورة السلطة قاتمة وتبعث على اليأس في أعين الأجيال الجديدة الفاقدة للأمل، الأجيال التي كانت بلا صوتٍ ولم يسأل عنها أحد، كان هؤلاء الشباب يضربون الأمثال بأفعالهم للأجيال الجديدة كيف يمكن استغلال الأوقات في أعمال الخير العام للبلاد:
كانوا يزرعون حُب الخير في النفوس الجديدة.
لو صحت التهمة فمن أين جاؤوا بالحُب الذي كانوا يوزعونهُ على الناس في الشوارع والساحات حتى أحبتهم الناس؟ ولو كانت أنفسهم مليئة بالغل والحقد فكيف اتسعت صدورهم لينصتوا لشكوى الناس وتبرمهم؟
:كانوا في أفعالهم وخطواتهم يبثون الأمل بالناس، أن هذه الأرض المعشوقة لا تنبتُ إلا الجمال والخير مهما حاول المبطلون.
لو كانوا أشراراً حقاً لكانت لهم أشواكٌ يشعرُ بها من هو رقيق الحال.
لو كانوا أشراراً ما كانت وجوههم في يناعة الليمون وقاماتهم في أناقة النخيل وأصواتهم أصوات بحارة.
لو كانوا أشراراً لغرقوا في الموجة، وباعوا الوطن في طين الفوضى.
أنا رأيتهم، كنتُ شاهداً عليهم، حين كانوا واحداً واحداً يهرعون بمياهِ أرواحهم ليطفئوا نار الفتن، والفتن كانت تتعمد حرقهم كي يفسحوا عن طريقها الكافر وهم يتصنعون اللامبالاة؛
رأيتهم واحداً واحداً مثلما رآهم من حضر وهم يعتنون بزهور الوطن ويروونها بالمعرفة.
أمثلَ هؤلاء الفلاحين الجدد يُتهمون بكُرهِ الطين والماء والتراب والساقية والسكة والسهل والجبل؟!
هؤلاء المعتقلون اليوم هم لآلئ الشباب ونفطنا الإنساني العماني المعاصر الجديد، أفنحبسُ ثرواتنا الجديدة ونسجنها ونهينها ونرميها بأشد النعوت والأوصاف؟! لأننا نرى أن فيها شوائب؟
مالنا كيف نحكم؟ وكيف لا نخاف على زهور غدنا فنفعل بها كل هذا الفعل؟!
يُشبهُ الأمرُ أن نصِمَ العشاق المشفقين، أصحاب الصوت الشفوق المحب، بأنهم أعداء لأنهم لم يحسنوا التصرف أمام الناس!!
كيف سيكون وقع تهمة الخيانة على العاشق؟
كذلك حالهم الآن.
لا يعتبُ عليك من لا يحبك، إنما ينصحك المحب، ولا يشفق عليك ويكلمك إلا واله؛ من لا يكترث بك ولا يهتم هو من يجاملك، ينافقك؛ أينما ذهبتَ في خطوةٍ واستشرته قال لك: زين وحسن.
أما من يحبك فهو من يشفق على خطواتك، من يخاف عليك الأذى، من يفكر فيك طوال الوقت، من لا يتكلم إلا عنك، فتمتلك عليهِ حركاته وسكناته، فلا يفعلُ إلا من أجلك. ولا يقولُ إلا فيك.
ليست الخطوات التي أعنيها هنا خطوات السلطان، ولكنها خطوات عمان، ولا ليست مراسيمه سلطانية بل عمانية، وليست رؤاه وأحلامهُ له بل هي لعمان، سلطانٌ كيفما يتّجه تتجه بلادٌ بأكملها، وكيفما ذهب تبعتهُ البلاد؛ ولا ليست مسئولية هينة ولا بسيطة. بل هي جسيمة ونبيلة.
المعتقلون اليوم لهم بياناتٌ ومواقفهم هي أدلة برائتهم، لا يحتاجون دفاعاً مني ولا مقالة، فلا يوسف قتيلٌ ولا ذئبَ عندَ البئر.
فدمُ من هذا على القميص؟!
أسفي في معاصرتنا، أن يؤخذ الناس بسقطات الألسنة، وهفوات الأنفس، ولو كان اللسانُ واثقاً مما يقول لخلقهُ اللهُ بعظم.
أسفي أن ينمو شجر البغضاء والشحناء سريعاً بين الأخوة بسبب حماقة فورة الشباب ولهيب حرارته، أسفي أن يكون نربي العداوة. وكل عداوة بين الأخوةِ سمٌ تشربهُ الأمُّ حتى وهي في قبرها.
تتبعُ عورات الناس ليس من النبالة ولا من القيم ولا من كرم النفس، وهل هناك أكثرُ عورة من الضمائر؟!
إن الكريم هو من إذا رأى زلة سترها بثيابه، من قيمة الحياةِ وحبها في نفسه لا يحب أن يرى فيها أحدٌ عيباً واحداً.
هذا وطنٌ وهُم قالوا: تعالوا نبنيه، هذا وطنٌ وهم قالوا: تعالوا نجعلهُ جميلاً في أعين الناس، هذا وطنٌ وهم قالوا: ما أجمله!
حفزهم جمالهُ وعشقهُ كي يثبتوا ويصروا على العمل من أجل أن ينمو ويكبر، ويخترعوا الوسائل والرسائل في حقولهم، لم يحسدوا أوطانهم ويقولوا تعالوا لنغتني منها ونجمع الثروات. ونتقاسمها. قالوا اذا كان مسار الوطن مخيباً للشباب فلنعمل لنجعلهُ مشجعاً لنا ولهم.
لو كانوا يريدون نهب حاضر البلد ومستقبله لامتلكوا وملكوا وجمعوا وكنزوا، مالي أراهم إذن وكلهم مستور الحال، ليس فيهم ثريٌّ ولا غنيٌّ ولا أصاحب اقطاعيات؟
لو كانوا لصوصاً يريدون سرقة أحلام البلاد لسرقوا منذ نعومة وجودهم أول مرة، ولأغرتهم لحظات الفوضى بالاختلاس، ما لي إذن أراهم عفيفي اليد، نزيهي السيرة طاهري النفس؟ غير هيابين في الحق، ولا متضعضعين عن موقف، ولا مرائين، ولا مداهنين في الأزمات، ولا خائفين ولا متذبذبين.
ما كان ذنبهم إلا أن قالوا إن الفساد لخرابٌ في الأرض عظيم، شفقةً منهم وخوفاً، وما كان ذنبهم إلا أن قالوا فلننسى ماضي البناء وتعالوا لنتمّ حاضرهُ بالنظام، ونعالج المشاكل، دعوتهم العمل ما انفكوا يحرصون عليه، لم تزعزعهم الآلام ولا العقبات عن حبهم بلادهم, ولم يقدهم إلى الشوارع والطرقات إلا خوفهم على بلادٍ من أجمل بلاد الله، وعلى أحلام وآمال شعبٍ من أطيب ما خلق الله،
هم ليسوا أكثر من حالمين بأن تستقر البلاد زمناً طويلاً يكفي كي تثمر تلك النخلة الأسطورية التي يقال أنها تثمر حين يستقر العدل في الأرض ويترعرع الحب والسلام.
عمان حبٌ مشتركٌ لي مع هؤلاء المعتقلين اليوم، لم نكن نطلبُ بكل ما فعلناهُ من أحدٍ إلا أن يعشقها معنا، أليست أرضاً طيبة؟ إذن تعالوا نجعلها جنة.
ألسنا حفدة فلاحين وسلالة بحارة وأبناء رعاة ونسل تجارٍ صالحين؟ تعالوا إذن نستفيد مما علمتنا الطبيعة في يومنا، لا أكثر، تعالوا نزرع شجر الحب الكبير وسط كل عشب الأمل والأفعال والمشاريع والأفكار، حتى يكون وطننا مليئاً بالحب والأمل ونصدره لكل الأرض.
ذاك مدى حبنا، وذلك ما تعلمناهُ تحت سدر هذه البلاد وسمره. وهذا طعم ملحهِ في كلماتنا.
نحنُ أهلُ بلاد علمتنا بالأثمان الباهظة الكبيرة أرفع الدروس في فساد الفتن. وصلاح السلام.
والصلاح ليس إلا صلاح الأنفس، والأرواح. بصلاح الأنفس تصلح الأرض وبفسادها تفسد.
عمان ليست أشياء مبعثرة، عمان أرضٌ حين نقولُ اسمها فنحن نعنيها كلها، كل ما فيها، وكل ما يخصها ويعنيها، لا نستثني من معناها شيئاً، حبُ الناس لبلادهم ليس حبَّ أشخاصٍ أو أفرادٍ أو جماعات، بل هو حبُّ الكل في كل جزءٍ من الكل، والسعي باختلاف الكل من أجل مصلحة الكل.
الناقد أكثرُ حُباً من المادح، المادحُ ليس محباً أصلاً، لأن المحب مشفق والمادح غير مكترثٍ إلا بذاته المداحة، أما الناقد فلو لم يكن محباً لما تحمل كل هذا الألم والعناء كي يقول ويوصل الصوت على بعد المسافة.
المدحُ رخيصٌ لأنهُ مجانيّ، النقدُ لهُ أثمانٌ باهضه، لا يستطيع أن يدفعها إلا من يعشق.
الوطنُ ليس تراباً مشتركاً، الوطنُ هو ما يصنعهُ أهل زمن مشترك في ذلك التراب.
عمان بلدٌ من خير فلنجعلها أكثر خيراً بأفعالنا. بنبذ الظنون والشكوك، بزرع الثقة في روح الثقة، في عين الأجيال المستقبلية، التي تنظر إلينا وتتأملُ الآن ما يحدث، لنعلمها الحب بتآخينا إذن، فبالحب تُحمى الأوطان وتنمو وتصان. فتنير.
لنعزز الأمل بصدق غدنا وإيماننا، ولنثبت نوايانا بجمال الأفعال، كي نخدم حقاً زمن هذه الأرض الساحرة الطيبة العطرة: عمان.