الأيام هي السبت و الأحد و الأثنين ، الوقت من الساعة (5:30 ولغاية 6:30 ) أي بمعدل ساعة واحدة ، التاريخ (9،10،11 /6/2012م). المكان بالقرب من مواقف المركبات بالحي التجاري . المعنيون أحدعشر متهما ، بينهم متهمتين لم تكملا العقد الثالث من عمريهما . جميعهم كانوا مشتبه بهم ، ثم متهمين ، وبعد ذلك محكوم عليهم أو مدانيين. يحملون أو يرفعون أو يتأبطون أو يمسكون { أيا كان الفعل} لوحات تزينت بمواد قانونية جلها منبثق من قانون الإجراءات الجزائية وفي مقدمة تلك العبارات المادة (24) من الدستور العماني . غايتهم ، دافعهم ، محركهم ، محرضهم { أيا كان المصدر } زملاء آخرون مقبوض عليهم ، لا يعرفون عنهم شيئا. أمانيهم مستمدة من أماني أهالي المحجوزين . تاريخ [11/6/2012م] هو لحظة القبض عليهم ، وتاريخ [12/12/2012م] هو لحظة صيرورة الحكم إلى نهائيته ، وما بين الزمنين أحداث و أحداث. (الأول ) مثل القبض و التحقيق وأخذ الأقوال و الحبس و المحاكمة و الحكم الأول و التقرير بالاستئناف و الإفراج و… و(الثاني ) مثل النشر في الصحف ووكالة الأنباء ، نشر الصورة والاسم الثلاثي ، السيرة الذاتية ، العمل ، التهمة ، المنطوق . وبين ذينك الزمنين لحظات حزن وفرح ، ترقب و انتظار ، دعاء ورجاء ، بكاء وزغاريد ، عايشناها بتفاصيلها ، وبين الفينة والأخرى دهشة واندهاش .
المحركات أو الأسباب ، أو ما يطلق عليه الدوافع الجرمية ، و التي هي عنصر مهم لا يجوز الالتفات عنه ، بل يلزم استجلائه في حالة ذهاب الحكم إلى الإدانة ، وذلك لأن موضع التجريم تجلى في أداة شرط يلزم تحقيقها ، وهي أن يكون ذلك التجمهر بقصد الإخلال بالنظام العام بعناصره الثلاثة المعلومة . وحتى أكون محايدا { بقدر الإمكان } لن أتناول ما ساقه المتهمون ، ولا الذي جاء بتأويله خصمهم سلطة الإتهام ، بل دعونا نعمل حواسنا ونستنطق تلك الدوافع من خلال اللوحات التي كانوا يحملونها على شاكلة : العدل أساس الملك ومضمون المادة (24) من الدستور و لا للاعتقالات التعسفية .
سأجتهد هنا وسأزعم أنهم شباب متعلم و مثقف و مطلع وقارئ وكاتب { أيا كانت الصفة} ليس بسبب اطلاعي على بعض السير الذاتية الخاصة بهم وحسب ، بل بدلالة البيان الذي صدر على أثر الحكم الأول و المنسوب إلى ( جمعية الكتاب ) . و البيان الذي صدر على أثر الحكم الثاني و الذي يتصدر أسماء موقعوه { عبدالله حبيب وسليمان المعمري و آخرون } .
بعد ما تقدم من طرح يمثل الحد الأدنى للقضية ، والذي يعد من الثوابت لا المتغيرات والتي لا يجوز المساس بها ، ومنها يبدأ الحراك الإجرائي للدعوى الجزائية . سأعود الآن إلى عنوان الموضوع وهو تقدير العقوبة . والذي سأتناوله بشكل مجرد عن المعطيات السابقة لأترك للقارئ مهمة المقاربة بين ما تقدم وما تأخر .
العقوبة هي الجزاء الذي يوقعه قاضي الموضوع على المتهم ، وبمطالعة جل القوانين العقابية نجدها ترسم عقوبة تتأرجح بين حدين أعلى و أدنى ، وبينهما يكون حراك السلطة القضائية . تنوعت المدارس الفقهية والقانونية بين قديمة و حديثة ، لتصل إلى إعطاء القاضي مساحة يتحرك من خلالها بين ذينك الحدين عوضا عن أن يكون جامدا و مقررا فقط . وللوقوف على تطبيق هذين الحدين أو المستويين لننظر إلى المادة الرقيمة ب 137 من قانون الجزاء العماني والتي نصت على : {{ يعاقب بالسجن من شهر إلى سنة وبغرامة لا تتجاوز مائتي ريال . . . }} مما يدل أن المساحة الممنوحة لقاضي الموضوع من المشرع تبدأ من الشهر وتنتهي عند حدود السنة . وذهب قانون العقوبات لدولة الإمارات العربية المتحدة في المادة الرقيمة ب ( 179 ) مكررا ( 1 ) إلى النص : {{ يعاقب بالحبس أو الغرامة كلا من . . . }}.
وقد تأكد هذا الطرح من قبل المحكمة ذاتها في قضايا الإعابة ، والتي تعدد فيها المتهمون ففي الوقت الذي تماثلت فيه المواد القانونية المحال من خلالها المتهمين ، وراوحت بين المادة ( 126 ) من قانون الجزاء ، والمادتين ( 16 + 19 ) من قانون جرائم تقنية المعلومات ، ذهبت أحكام الإدانة إلى إيقاف العقوبة الحبسية نهائيا عن أحد المتهمين ونزلت بها عند متهم آخر إلى الحدود الدنيا وصلت إلى مستوى العشرين يوما ، في حين أنها ذهبت إلى التطابق في حق باقي المتهمين .
وحتى لا يكون ذلك التحرك اجتهاديا ، ذهب الفقه و القضاء القانونيين إلى رسم محددات وموجهات ، وكان من بينهما ما يسمى بعنصر ( السبب) . الذي يشار إليه بالعوامل التي اعتملت في نفس المتهم ودفعته إلى الإقدام على ما يعد محرما من وجهة نظر القانون . وعلى ذلك نقول : أنه من غير الجائز أن يسوى في العقوبة بين متهمين الأول تحركه دوافع إنسانية نبيلة أو اعتقاد بحبه و هيامه في بلده . و بين آخر تحركه النزعات الإجرامية الشريرة . هذا الطرح لم يكن نظريا ، بل أن من المؤسسات القضائية من أخذت به ، على شاكلة قانون العقوبات السويدي الصادر في عام (1884م).الذي رسم عقوبة النفي المؤبد للقاتل مع سبق الإصرار ، غير أنه ذهب إلى مكنة استبدال تلك العقوبة بعشر سنوات في حال توافر عنصر ( شرف الأسباب ) . بل إن إحدى محاكم الجنايات في فرنسا في تاريخ (1908م) ذهبت إلى القضاء ببراءة المتهم ، لأنه ليس مجرما وأن لا عقوبة عليه نظرا (لشرف السبب) وذلك في قضية عمد فيها المتهم إلى إطلاق رصاص صوب رجل يسير في جنازة (ايميل زولا) اعتقادا من المتهم أن ذاك الرجل خائن لبلاده. وبسؤال ( الورداني ) المتهم في قضية اغتيال ( بطرس غالي ): لماذا أقدمت على ما أقدمت عليه ؟ أجاب : …ولست متأسفا على ما فعلت ، لأني لم أفعل ذلك إلا بقصد خدمة وطني وهذا مبدأي .كان لسان حاله يردد أنه إذا أحدق الخطر بالأمة وحفت سلامة الوطن بالمخاوف فكل محظور مباح في سبيل درء هذه الأخطار .
وقياسا على ذلك ، ليس هناك من سبب يجعل تلكم المتهمتين تقدمان على ما أقدمتا عليه سوى التضامن مع أهالي المحتجزين ينشدون جميعا مضمون المادة (24) من الدستور وهو الذي أبدوه علانية في جلسات المحاكمة ،ولذلك لم يكن معهم جميعا سلاحا ابيضا أو أحمرا أو أسودا { أيا كان اللون } كانت لديهم فكرة ومبدأ اختمرا في ألبابهم .
إن الأنفس البشرية تختلف وتتمايز فهناك من يحتاج إلى نصح طويل وهناك من يتأثر بالكلمة وهناك من يستشعر العقاب بنظرة خاطفة ، هناك من دخل الإسلام تحت وطأة الفتوحات ، وهناك من ذهب إليه طواعية ، ولذلك فإن قلة العقوبة عند البعض تعادل الكثير عند البعض الآخر . لذا فإن القاضي مطالب بأن يحل نفسه محل المتهم يتصور نفسه محوطة بظروفه ، ينزل إلى دركه في الفهم ، وفي مبلغ أثر الحوادث فيه ، لأن القضاء لا يقوم إلا بتفهم هذا جميعه . ومن أجل ذلك ترك للقاضي المدى الواسع بين أقصى عقوبة وبين أدناها.وذكرنا أن الفعل المادي واحد في جميع الأحوال ، ولا يجيئ الفرق في الحكم إلا لاختلاف ما يفهمه القاضي من تلك العناصر المختلفة والأهواء المتباينة .أن من بين المستقر عليه فقها قانونيا أن العقوبة تقوم على فلسفة الردع و الزجر ، تقوم على عقيدة الإصلاح لا على عقيدة الانتقام ، ولذا فإن العقوبات المغالى فيها تفتح هوة عميقة في الضمائر وتغمس أصابعها في الفكر الإنساني تقود إلى التشكك بالإنسانية عند الحكم بها على المجرم ، والى التشكك بكل شيء عند الحكم بها على البريء.
إن فكرة العقوبة مرت بتطورات عدة ، اجتازت الكثير حتى وصلت إلى ما وصلت إليه وذلك من حيث أنها بدأت شخصية بحتة ، فكل إنسان ينتقم لنفسه ، ثم أخذ المجتمع حق العقوبة لنفسه ، ولكن ظلت مظهرا من مظاهر الانتقام والتنكيل ، كانت تعد إخلالا بحق سماوي ثم صارت تعد إخلالا بقانون أخلاقي ، وفي العصور الحديثة ذهبت للتحول إلى وظيفة اجتماعية ، وأنها سبيل للإصلاح والهداية ، فصار حماية المجتمع هو الهدف المنشود وليس إيذاء الجاني أو تعذيبه أو حبسه .
إن تقدير العقوبة يقتضي الموازنة بين الاستحقاق والمنفعة ، أي أن الألم الذي يلحق بالمدان يجب أن لا يكون قاسيا عليه ، بحيث يؤثر على عملية إصلاحه وردعه ، وفي جميع الأحوال يلزم أن لا تتم التضحية بحياة وحريات الأفراد بشكل مطلق لغرض تحقيق العقوبة . ولذا يقع المجتمع بين مستويين : العقاب والانتقام ، العقاب فوق المجتمع ، والانتقام أقل منه ، العقاب كبير ، والانتقام صغير ، العقاب منشود ، والانتقام منبوذ ، الأول انتصار للمجتمع ، والثاني هزيمة له وانتصار للمحكوم عليه . ولذلك فمن واجب المجتمع أن لا يعاقب لينتقم ، بل أن يصلح ليصل إلى ما هو أفضل .
إن العقوبة بهذا المعنى الفلسفي الأصيل ( تتكامل ) مع القاضي العدل الذي وصفته الكاتبة – سناء البيسي – في حديثها عن الفقيه – عبدالرزاق السنهوري – : ( كان يصدر أحكاما قضائية ، بلغت القمة في شجاعتها ونزاهتها ، ودقتها في مراعاة القانون وعمقها في تطبيق روح القانون ، وهو الأهم والأصعب ). و ( تتشابه ) مع القاضي من حيث أنها يجب أن تكون مجردة من أية دوافع أو عوالق خارجية قد تخرج بها عن المسار الذي شرعت وأوجدت من أجله . أما إذا حادت عن مسارها و انحرفت عن غايتها وتعلقت بمعطيات غير المتهم و المجتمع ، عندها يكون أثرها على المتهم سلبيا وعلى المجتمع أكثر ضررا. فمن حيث المجتمع ، فهذا العالم (لمبروزو) يخبرنا : << علمنا التاريخ أن شدة العقوبة في الجرائم السياسية تفضي بطبيعتها إلى مضرات عظيمة و أخطار جسيمة على حياة الأمة نفسها >>.وهناك من الأحكام التي على إثرها تغيرت معطيات ، وتبدلت معادلات بسبب إن غاية الأحكام خرجت عن مسار الإصلاح ،وتجاوزت المتهم والمجتمع ولعل الحكم في قضية (دنشواي) وهي القرية المصرية ، خير دليل على ما جلبته بعد ذلك والربيع العربي خير مثال على ذلك لانبثاقه من العقوبات القاسية المغالى فيها .
وأما من حيث الفرد ، فإن العقوبة القاسية تجعله غير مستوعب لها ، فاقدة لأثرها العلاجي المنشود من قبل المجتمع . إنه يستمد منها مصلا وقائيا ودواء محفزا ، تجعله يلاقي سجانه بابتسامة ملغومة ، ويحسب زنزانته قصرا يفتخر به .
وقبل أيام قليلة تطالعني الأديبة ( بدرية البشر) بمقال تعنون بـ ( لا تصنعوا منا أبطالا) على إثر العقوبة المتمثلة بمنعها من دخول دولة الكويت ، حيث أنها ترى أن النتيجة ستكون عكسية للمعاقب ، إيجابية لها . ولنمعن النظر قليلا في أجمل مزار سياحي ، لدولة كبيرة مثل ( جنوب أفريقيا ) ليس { رأس الرجاء الصالح } وليس { جبل الطاولة } وإنما زنزانة صغيرة مكونة من سرير وطاولة خشبية في جزيرة تدعى ( روبين ). وفي عام 1985 م عرض على نزيل الزنزانة إطلاق سراحه مقابل إعلان وقف المقاومة المسلحة غير أنه رفض العرض وبقي في الزنزانة حتى 11 فبراير من العام 1990 م . وللوقوف على هذا المعنى الفلسفي في قراءة السجين لحكم إدانته ، نذهب إلى ما كتبه مجموعة من أولئك المدانين إثر تلقيهم نبأ الحكم ، وتيقنهم من الذهاب إلى السجن ، مثل ، باسمة الراجحية قالت : ( من قال أنها النهاية ، إنها البداية فقط . ما أجمل أن تكون حرا رغم الجدران . ربي إن السجن أحب إلي مما يدعوني إليه ). أما بسمة الكيومية فذكرت : ( حبا وطواعية سندخل السجن . . وسنقدم رؤوسنا للمقصلة إذا اضطررنا . . لكن عمان الجديدة ستأتي . . بأي ثمن ستأتي ).في حين كتب نبهان الحنشي ( صباحكم خال من الحزن . خال من الانكسار ، صباح الصمود والعزيمة والتجدد ).
بل إن البعض ممن هم يمثلون جزءا من المجتمع ، كانت ردة فعلهم مشابهة لابتسامة المحكوم عليه ، ويتجلى ذلك في بعض التغريدات على شاكلة : يعقوب الحارثي حيث قال ( أجسادكم هي الآن في السجن ، أرواحكم ترفرف فوق سمائنا ). وذهب ابراهيم سعيد إلى أن يكتب ( تحية مشرقة وممتنة لمن تصلهم التحيات المشرقة أينما كانوا ).
وبالعودة إلى المحكوم عليهم ، نجد أنهم من بين أعضاء الكتيبة الأولى في جيش البناء كان حريا أن ترشدوهم ( إن ) ضلوا السبيل ، لا أن تقتلوا في الأمة روح البناء .