فاطمة الشيدي -
1.
منذ ثمانينيات القرن الفائت ومبارك العامري يسكن فكرة الكتابة، يعيش فيها، ويعيش لها، وينسج حياته بكل تفاصيلها الروحية والإنسانية، الخاصة والعامة ضمنها، فقد أغرته السلطة الرابعة بحضورها الأنيق "الثقافي" في بداياته فمارس هذا الدور غير قليل من الوقت والاشتغال، ثم بدأ مرحلة نشر نتاجاته الإبداعية بين غلافين، فأختار أن تكون بداياته في النشر لصالح السرد عبر روايتيه "مدارات العزلة، وشارع الفراهيدي". رغم أنه جلي للمتتبع لتجربته، أنه يركن إلى الشعر، وأنه مأخوذ به بشكل يجعله شاعرا أولا وأخيرا، وربما يعود ذلك لأن سطوة الشعر غالبا؛ تشكل غيمة تحرس صاحبها، وتمنعه من باقي الأجناس مهما حاولها، ولذا فلا عجب أن الكثير من الشعراء يمارسون كل أشكال الكتابة، ولكنهم يبقون في خانة "شاعر" بفرح وفخر. ولاحقا جاء كتابه الشعري بسالة الغرقى 2010، متأخرا قليلا في الزمن عميقا كما يليق به في الرؤية والشعرية.
جاءت هذه المجموعة لتقدم صاحبها بشكل يشبهه به، فهو الشاعر الذي ينسكب في قصيدته البسيطة والعميقة في ذات الوقت، ويتحرك ضمنها كما خارجها بروح شاعر يحركه الشعر من أقصاه إلى أقصاه، ويمزجه بالإنسان والحب والوطن والحرية، ويوحده مع قارئه في الزمان والمكان.
2.
كتب مبارك العامري الشعر منذ شعر بتلك الحكة التي تصيب الروح والأصابع، والحرقة التي غافلته وتربعت على قلبه، كتبه نصا رائعا رائقا لا يشبه إلا صاحبه، ونشر نصوصه في الملاحق الثقافية، فكانت ملاذ محبي الشعر الجميل، والعميق والبسيط، فكان الجميع يبحث عن نصه المختلف النوازع بين الحب والوصف والجمال والإنسان، واستمر مخلصا لفعل الكتابة ولروحه وأفكاره، حتى أدركه الألم، ليجد نفسه مرضوضا ومكدودا، مرهق الجسد، خائر القوة، فلم يجزع ولم يتقهقر خارج روحه المسكونة بالجمال، بل توحد بها، وحمى نفسه بالشعر، وداوى روحه المرهقة بالقراءة والفن والمحبات، واستقوى بالكتابة والشعر والجمال، مدركا أنه منذ البدء كان مريضا بالمختلف الجميل والنبيل, لذا أخلص للكتابة أكثر، وتشبث بفعلها الرفيع والحميم أكثر فأكثر، وكأنه تمثّل قول أبي نواس " داوني بالتي كانت هي الداء".
3.
حين انفتحت أمام الكون والشعراء العوالم الضوئية أو الافتراضية، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك" و "تويتر" هرع إليها مبارك العامري بشغف حميم، حاملا أحلامه وأقلامه، مسجلا حضورا جميلا ونبيلا فيها، مخلصا للكتابة، منحازا لقضايا الإنسان والوطن والفكر والحرية، مشكلا حالة مختلفة عن مجايليه ممن كونوا عداوات ضمنية مع هذه العوالم الافتراضية، فلم يتماسوا معها إما جهلا بالتقنية، أو ترفعا عنها، أو حيطة وحذرا لأنهم يرون فيها مضيعة للوقت، وحقق فيها جماهيرية شعرية وإنسانية رائعة وراقية، بشكل حميم وإيجابي وإنساني عميق، وتماس مع الدعوات الجديدة للانفتاح والحريات، بوعي ومحبة وقرب تمثله قصائده المنسوجة من وحي الفكرة والمناسبة، و"لايكاته" الدائمة للجميع والتي تقول بمحبة قصوى: "أنا أتابعكم بمحبة، وأشد على أياديكم أيها الأصدقاء والأخوة والأبناء" مشكلا بذلك حالة توازن عميق للوسط الثقافي العماني، على هذه المواقع، مقتربا ومتقاربا مع كل التجارب الأدبية بمختلف مشاربها الفنية، ومتناغما مع التجارب الجديدة التي ترى في قربه وتشجيعه حالة صحية يقتدون بها، وفيما يكتب من شعر، عمقا فنيا ينبغي الذهاب خلفه، وتتبع آثاره الجمالية، كما شكّل حالة إبداعية وإنسانية نبيلة في التلاقي و الانفتاح مع الآخر المبدع والإنساني في كل أصقاع المعمورة.
4.
يحظى مبارك العامري بالكثير من القرّاء، والمتابعين، والمعجبين من كل فئات المجتمع، ومن كل المستويات المعرفية والثقافية والإنسانية. فهو شاعر يصوغ ذاته وانفعالاته وأحاسيسه وجروحه ومكابداته، في قصائد يمكن أن يتلبسها الجميع، ويستشعرها القارئ كأنه كاتبها، كما أنه يتحرك في كل مساحات الإنسان وعيا وثقافة ورفضا وإنسانية، يكتب عن الوجع، كما يكتب عن الوطن، ويكتب عن الحرية، كما يكتب عن العشق، ويكتب عن الإنسان، كما يكتب عن وردة في الطريق.
إنه شاعر يتمثل الإنسان، ويكتبه، ويحكيه ويجسّده، ولذا فلا غرابة أن يجد القارئ عبر نصه ما يمثله تماما، فهو (أي الشاعر) يكتب قصيدته الفنية العذبة مكتملة النضج والجمال عن كل ألم ووجع يشعر به الإنسان، في كل زمان ومكان، كأنها صادرة عن طعنة في قلبه تماما.
كما أن الشاعر لم يظن على قارئه بشعره، ولم يبتعد عنه يوما، بل كان دائما حاضرا وبقوة، محاولا كل أشكال التقارب مع الإنسان والشعر، فهو الأقرب لكل حدث، ولكل حالة عبر شعره النبيل والجميل وتواصله مع المشهد الثقافي المنعكس حاليا في العوالم الافتراضية، وهذا ما حدا بأصدقائه بأن يستلهموا مواقفه، ويقدروا حضوره، ويقفوا معه في شدته ومرضه، بل ويعتبرونه شاعر الحرية، ورمز القصيدة الإنسانية العميقة والجارحة.
5.
تشكل قصيدة مبارك العامري بصمة جمالية وإبداعية مميزة في الشعر العماني المعاصر، حيث تتسم بتحقيق المعادلة الصعبة بين العمق والبساطة في نفس الوقت، كما تتسم بالتجديد والتجريب المستمر في المضمون، والتنويع في أغراض القصيدة، فهو شاعر التفاصيل الحياتية بامتياز، وشاعر الوعي الذي يشعل شرارته بمحبة، ويحفّز عليه بقوة ومبدأ جسور. فمبارك العامري يكتب قصيدته برفق وليونة منسكبة من روحه، لذا فهي سهلة وواضحة وتخاطب الروح مباشرة، ولا يشكل على القارئ فيها أي معنى، لأنها بريئة من الغموض الفج، أو التصنع المصنوع، ومع كل تلك البساطة فهي مدهشة بفكرتها المتسمة بعمق وشعرية عالية، وهي عميقة بصورتها الفنية المستنبطة من روح البيئة والشاعر والوجود الأكبر، وهي جادة في طرحها وتناولاتها وأفكارها الجزئية والعامة.
ويمثل التحليق الروحي الشفيف، والاعتناء بمظاهر الجمال العميق والبعيد أهم مضامين قصيدة العامري، فهو في الضمني والعميق منه شاعر الحب والبياض، شاعر الروح المتهادية والمأخوذة بالفتنة بخفة ورقة. يقول عن نفسه:
"شغوف بالبياض
بانبجاس المطر من رحم الغيم
باليمام خارج السرب
بندف البرَد ومكعبات السكر
شغوف بالتقاء البياض بالبياض"
وهو شاعر الحرية والرفض، شاعر الأنفة والعنفوان، شاعر العزة والكبرياء، يواجه كل قيد وسلطة، وتسلط بروحه الرحبة، وشعريته العذبة والدافئة .. يقول:
"لَنْ أَدَعْ أَيَّ سُلْطةٍ ،
تَدَّعِي القَدَاسَةَ
في هَذَا البَرْزَخِ المُلْتَبِسِ ،
تَهْدُرَ دَمِي
عدا تِلْكَ المَسْحَةَ الشَاحِبَةَ
في بِلَّوْرِ جَبينِك "
ويقول أيضا راجيا السنوات، متململا من كل الوجع الذي يسكن الإنسان، والقبح الذي يحيط بالأرواح الجميلة التي تحاصرها الأظافر المعدنية، والخفافيش التي تحيك دسائسها في الظلام، داسا أمنية ورغبة ورجاء في المستقبل والقادم:
"أَيُّهَا العامُ الجَديد
كُنْ رَؤوفَاً بِأَحْلامِنَا الصَغيرةِ
لا؛ بَلْ كُنْ حَارِسَاً عَلَيْهَا
هذه المَرَّة
حَتَّى لا تَخْتَطفها بَراثِنُ البَرابِرةِ
المُدَجَّجينَ بشهوةِ الإقْصاءِ المُمَنْهَج
ويَقينيَّاتِ أَنْبِيَاءِ الظَلام"
و مبارك العامري إنساني النزعة يكتب عن الإنسان باتساع وشمول منحازا له، وللخير والحق والجمال، معريا القهر والظلم الذي ينشب مخالبه في روح، ووجه، ورغيف الإنسان، والقيد الذي يوغل في أحلامه وأعصابه، والعِصابات المتشكلة حول الرؤى والرؤية، يكتب عن الجوع والفقر والمرض، تماما كما يكتب الحرية وضرورتها للروح لترتقي وتتنفس، يكتب بشعرية مشبّعة بالألم والحزن، بعيدة عن التجلي والإفصاح خارج الشعر الذي يمكن أن يقول كل شيء بحذر وبلاغة. يقول :
"غَشِيَتْهَا إِغْفَاءَةٌ نَاعِمَة
وحِينَ أَفَاقَتْ بَكَتْ كَثيرَاً
لِأَنَّ نِهَايَةَ الحُلْمِ
كَانَتْ مُوْغِلَةً في الحُزْنِ
كَوَجْهِ مُواطِنٍ عَرَبي"
ويقول رافضا حصار الإنسان، وتكميم صوته، ومراقبة أحلامه، وتأخير ذهابه حنو الغد والحرية :
"مَنْ أَعْطَاكُمُ الحَقَّ ،
أَيُّهَا المُنْدَسٌّونَ في أَحْلامِنَا،
لِتَضَعَوا عِصِيَّكُم البَالِيَةَ
في عجَلَةِ الزَمَنِ
السَائِرِ قُدُمَاً
نَحْوَ أُفُقِ الانعِتَاقِ مِنْ رِبْقَةِ
القَطيعِ المُقادِ جَبْراً
إلى حَيْث حَتْفِه؟"
كما يقول في يأس وألم لما يحيط بالإنسان العربي من كل حدب وصوب، من عنف وقهر ودم وألم، مستحضرا روح الماغوط، وفلسفته الإنسانية، وتجلياته الرافضة:
"كم مِنَ الأَثْمَانِ عَلَيْنَا أنْ نَدْفَعَ
حَتَّى يَؤوبَ إِنْسَانُنَا الضَالُّ
إِلى فِرْدَوْسِهِ السَليبِ
المَصْلوبِ عَلى جِذْعِ الخُرافة
وكَمْ مِنْ نُصُوصٍ بَالِيَةٍ
عَلَيْنَا أَنْ نُمَزِق
حَتَّى يَسْتَعيدَ العَقْلُ النَازِفُ
نَضَارَتَهُ وفِعْلَه"
ويميل العامري إلى رسم الوجوه "البشر" بكل التفاصيل المحيطة بها، والمكوّنة لها بدقة متناهية، كفنان بورتريهات متمكّن، فهو يرسم الشخوص من الداخل والخارج معا بوعي عميق، مظهرا الجمال، والقبح الذي يسكن الداخل، وقد يخفيه المظهر، عبر استحضار تاريخ ومسيرة الفرد في الجماعة، أو في الحياة التي تعيد أحيانا كثيرة تشكيل الإنسان، وفق المعطيات والمتاح من الفعل والتكوين النفسي والمادي والاجتماعي، ووفق التداعي مع شهوة السلطة والمال .. يقول:
"لَمْ يَعُدْ هُوَ
الَّذي أعْرفهُ
مِنْذُ أًنْ غَادَرَتْهُ
أًناهُ العُلْيَا
غَدا فَارِغَاً تمَاماً
إِلاَّ مِنْ وَهْمٍ كَبيرٍ
اسْمُهُ اَل VIP
وإرَادَةٍ ليْسَتْ لَهُ"
والحب هو الشعر، ولذا فهو يحضر وبكثافة تليق به، وبانثيال تام، وذهاب كلي، وانغماس حتمي، في قصائد مبارك العامري حيث يتوحد الشعر والشاعر والعشق، ولكن باختلاف المداخل، مستحضرا ذاته المستكينة للغيم والعشق، والمولعة بالمحبوب، والملتذة بالحب، والمستنجدة به، كتميمة أزلية للخلاص واللذة والحياة. يقول :
"في لُجَّةِ الأًلمِ السَحيقَةِ
كَانَ الحُبُّ هُوَ الضَمَّادَةَ
وهُوَ البَلْسَم
إِذْ تَوارَتْ في حُضورِهِ البَهِيِّ
سَوْراتُ الوَجَع الحَاقِدة"
ويقول في وصف دهشة الحب، وصدفته الجميلة، وقيمته وفعله:
"لَمْ أَكُنْ أُدْرِكُ أَنَّ ثَمَّةَ نَسْمَةً
قَادِرَةٌ عَلى تَحْريكِ بَوْصَلَةِ اللَّيْلِ
وَنَفْخِ الرُوحِ في الحِلْكَةِ
إِلاَّ حِينَ تَهَادَتْ قَامَةُ النهَارِ
وزَاغَت الأَعْيُن مَبْهورَةً
بِالتِقَاءِ الضِدَّيْنِ
وانْفِراطِ عِقْدِ الظِلِّ والضَوْء
لَمْ أَكُنْ أُدْرِكُ بِأَنَّ الَّليْلَ والنَهَارَ
يَغْدُوَان كَائِنَين ضَاجَّين
مِثْلَ طِفْلَينِ في نُزْهَة
حَتَّى اكْتَشَفْتُ بِمَحْضِ الصُدْفَةِ،
وعبْرَ مُعَادَلَةٍ سَريعَةٍ كَوَمْضَة،
أَنَّ لِلَّوْنِ سِحْراً
تَمَاماً كلَذَّةِ الإِمْعَانِ في الشَذَى
أَوْ كَشَهْقَةِ العِنَاقِ المُؤَجَّلَة"
ولكن متى ما وجد الحب، فلا بد من فقد وفراق، لابد من غياب وألم، لا من وجع الحب الذي هو وجهه الآخر واليقيني غالبا .. يقول :
"يذهبُ الذين نحبُّهم
بعيداً
يمتطونَ صهوةَ الريحِ
ويختفونَ في السَديمِ
تاركينَ وراءَهم
أفئدةً
تَنُزُّ شوقاً
وربما حسرةً
وآثارَ خُطَىً رطبة"
ويحضر الوطن في نصوص مبارك العامري كتميمة أزلية، وكحضن دافئ يختصر كل الأحضان، وغاية قصوى تشرئب أمامها كل الوسائل، إنه تعويذة العشق الخالدة، وأيقونة الحنان العظيمة، وتاريخ الحنين الجارح، والمستمر والأبدي، حيث يكتب الشاعر مبارك العامري عن الوطن منوعا عليه فهو، الوطن، والبيت، والطفولة، والمرأة، وقد يذكره أحيانا بذاته واسمه "مزون" ، "صحار" وغيرها من أسماء المكان العماني الراسخ في روح الشاعر. .. يقول :
"حِينَمَا يَسْتَبِدُّ بِيَ الحَنينُ
وتجْلِدُني غُرْبَةُ الرُخَامِ
والتِكْنولوجيَا
أَهْفُو بِنَشْوَةٍ عَارِمَةٍ
كَمَا نِسْرٍ مُهاجِر
نَحْوَ بيْتِنَا القَديم
مُفَتِّشَاً
عَنْ رائِحَتي الأُولَى
وضِحْكَتي النَاصِعَة"
ويقول في قصيدته "مزون" مصورا الوطن كحبيبة خرافية، أو أم عظيمة، موحدا بينهما كقلب مفتوح وحضن أزلي، ورائحة لا تخطئها الروح العطشى للحنان:
" كلما جئتُ لاهثاً
مغسولاً بالتعبِ
تفتحينَ صدرَكِ الوثير
كخانٍ تقطنُهُ المحبَّة
وكلما اشتهيتُ
أنْ أصنعَ وطناً صغيراً
لأحلامي المبعثرةِ
تفرشينَ أهدابكِ
سَجَّادةً
تستقرُّ عليها الرُوح"
ويقول في قصيدته "صُحَار" مستحضرا تاريخها العريق، وأمجادها البحرية العظيمة، وحضورها الإنساني الماجد:
"يا مدينةَ الحلمِ والحريةِ
كالعنقاءِ
مزهوَّةً بمجدٍ
ادَّخَرَتْهُ السنواتُ
الزاهيةُ
هاأنتِ
تقفينَ اليومَ
مشرَئِبَّةً في وجهِ
العاصفةِ:
6.
يعيش مبارك العامري عزلته الاختيارية بلا طمع في ظهور، أو رغبة في تجل أو حضور، فاردا أجنحته خارج السرب، منشغلا عنه بالغناء وفق ما يتيحه الوقت والروح والجسد، ميمما وجهه شطر قصيدته الرائعة، التي يعتني بها بهدوء، ويشتغلها بروية وعمق، تلك القصيدة العذراء التي وهبت له ذاتها متكأ في حضرة الألم والمرض والمصالح والتكالبات المريضة، عذبة وجميلة وهادئة وخاصة، موغلا في المحبة الافتراضية، ومستندا إلى جمهور عريض من الأصدقاء، والمريدين، والمخلصين، والمعجبين الضوئيين غالبا، ومكتفيا بالتفاعل الرقمي عبر وردة الرقمية، وحضورها الشاحب والشحيح، وجمالها البعيد، والقليل من الفعل الإنساني الحميم.