الأحد، 14 أبريل 2013

مجلة الفلق الإلكترونية / عن الكاتب: بدر العبري/ عمان في “برقيات كيسنجر”: قراءة سريعة


عمان في “برقيات كيسنجر”: قراءة سريعة

بدر العبري

عن الكاتب: بدر العبري


  
نافذة:

تحت مُسمى “المكتبة العامة المختصّة بالدبلوماسية الأمريكية” نشر موقع “ويكيليكس” في بداية شهر إبريل الجاري ما يقارب من مليونيّ وثيقة تتناول مراسلات العديد من السفارات الأمريكية في مختلف أنحاء العالم ومراسلات وزارة الخارجية الأمريكية. ويصف الموقع هذه المراسلات بأنها أكبر مجموعة وثائق للاتصالات الأمريكية الدبلوماسية يمكن البحث فيها، وتحتوي على وثائق سرية مُسربة وأخرى تم الإفراج عنها من قبل الحكومة الأمريكية بناءً على قانون حرية تداول المعلومات.

ولعل أهم قسم من هذه المكتبة هو ما أسمته “ويكيليكس” ب “برقيات كيسنجر” وهو عبارة عمّا يقارب من ١.٧ مليون وثيقة تعود للفترة ١٩٧٣م-١٩٧٦م والتي كان فيها “هنري كيسنجر” وزيراً للخارجية الأمريكية، وهي موضوع اهتمامنا هنا.

وغنيٌّ عن القول بأن هذه المراسلات والبرقيات مهمة لكل مهتم بالتاريخ السياسي العماني، وخصوصاً أن تلك الفترة كانت حرجة للسلطنة على أصعدة عدة؛ فهناك حرب ظفار التي كانت لا تزال مستعرة، وهناك جهود السلطان قابوس للسعي لبناء دولة حديثة، بالإضافة إلى نفوذ البريطانيين الذي كان لا يزال ملموساً بشدة، وكذلك العلاقة الشائكة بين إيران والدول العربية، يُضاف إلى هذا كله إلى أن الكُتب -العمانية منها والإنجليزية- قلّما تتناول تلك الفترة خارج نطاق حرب ظفار، كما أن الوصول إلى المستندات الأصلية يُساعدنا في فهم العقلية الدبلوماسية الأمريكية وكيفية تعاطيها مع الدولة العمانية.

وفي هذه الأطروحة المتواضعة فإنني سعيت إلى “تلخيص” بعض الوثائق التي نالت اهتمامي وتعود للفترة من مارس ١٩٧٣م حتى الأول من يوليو لذات العام، ولا يربطُ بين هذه الوثائق – كما سيلاحظ القارئ- رابط “الموضوع” قدر ما يربط بينها العامل الزمني، فهناك وثائق تتناول بعض الأخبار العسكرية من اعتقالات وإعدامات، وهناك أخرى دبلوماسية تتناول العلاقات العمانية الخارجية وما شابه. كما أنه ينبغي القول أن هذه ليست “ترجمة حرفية” للوثائق بل هو “تلخيص” لها، ويمكن للراغبين بقراءة الوثائق كاملةً البحث عن عنوانها باللغة الإنجليزية عبر “ويكيليكس” أو “جوجل”.

وختاماً لهذه المقدمة فإنني أدعو الباحثين والمهتمين بالتاريخ السياسي العماني لقراءة وترجمة وتحليل تلك المستندات المهمة، كما أنني أشكر كل من كتب عن تلك الوثائق عبر موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” وأرشدنا لأهمها، وسأكتفي هنا بتسمية الصديق عاصم الصقري لكونه من راجع وصحح ترجمتي وقراءتي لتلك الوثائق. وعسى أن لا يكون هذه الأطروحة هي آخر تناول لهذه الوثائق في مجلة الفلق الإلكترونية سواءً مني أو من آخرين.

“كيسنجريات” عمان:

تناولت الوثيقة الصادرة بتاريخ السابع عشر من مارس ١٩٧٣م تحت عنوان “اعتقالات متمردي جبهة تحرير عمان والخليج العربي المحتل في شمال عمان” CONTINUED ROUNDUP PFLOAG REBELS IN NORTHERN OMAN خبر اعتقال ٨٨ شخصاً من متمردي الجبهة، ٥٥ منهم في انتظار محاكمتهم في حين ما زال البقية تحت التحقيق ذاكرةً أن ضابط تدريب عراقي كان من ضمن المعتقلين. وقد كان التجنيد والتدريب وتوفير الأسلحة لعمليات الجبهة مستمراً منذ عشرة أشهر، وهو ما يُبيّن أن عمان أرض خصبة وملاذ آمن لانتشار المتمردين. وهو ما دفع أحد ضباط الاستخبارات لتحذير السلطان من الفساد المُتجذّر في بعض القيادات العليا ومن الفجوة المتزايدة بين الدخل وعوائد التنمية.

وقالت أن الـ٥٥ مُعتقلاً مكثوا في سجن الجلالي، وأن الذين لا زالوا في التحقيق بينهم ثماني نساء وأربع جنود. وأنه يوجد كذلك ضابط تم نقله من منصبه بالجيش لذات السبب ولكنه ادعى مع عدد من الجنود أنه لم يكن مُجنداً لجبهة تحرير عمان ولكنهم كانوا يسعون للتعاضد كأخوة عرب ضد النفوذ البريطاني والبلوشي والباكستاني في الجيش. وقد أشارت الوثيقة أنه لم يكن بين المتعاضدين أي زنجباري.

وكذلك فإنه تم العثور على كمية كبيرة من الأسلحة المخبأة في الحزم جاءت من جنوب اليمن حسب مصادر استخبارية عمانية، وأن استجواب المُعتقلين أدى لمعرفة حجم ونوع الشحنات التي نقلت من عدن عبر مراكب شراعية لصور في يونيو ١٩٧٢م ومن ثم للسيب وبعدها لنقاط مختلفة.
وحسب الوثيقة فإن تسلسل الأحداث آنذاك جاء كالتالي: تسلّل عضو اللجنة المركزية في الجبهة والمعروف بـ”أحمد علي” إلى عُمان قادماً من عدن في فبراير ١٩٧٢م من أجل خلق بضعة خلايا قتالية للجبهة في شمال عمان على مجموعات من ستة أشخاص. وفي أكتوبر من ذات السنة بدء تدريب الرجال وفي نوفمبر وصلت التعليمات من عدن بأن يكون هناك هجوم في الشمال لتخفيف الضغط على الجبهة في ظفار، وكانت الخطة تقتضي على أن تتم مهاجمة منشآت عسكرية في الأول من يناير ثم التراجع صوب داخل عُمان فيما يُشبه نموذج كاسترو.

وقد وصف ضابط استخبارات مُحنك ردة فعل الرأي العام تجاه نقاط تفتيش الجيش والشرطة بأنها كانت مسبقا غير متعاطفة ولا مبالية بأهميتها نتيجة اعتقادهم بأن نية المتمردين كانت استهداف الإنجليز ومناهضة التواجد الأجنبي فقط. ولكن نشر الصور للأسلحة الصينية الحديثة التي كانت مع المتمردين قلب الرأي العام تماماً. وقد أبدى الضابط قلقه من قدرة المتمردين على تجنيد أتباع من مختلف الفئات والمهن، قائلاً أنه حذر السلطان شخصيا من أن ذلك جاء نتيجةً للتقسيم غير العادل لموارد الدخل وتغلغل الفساد الحكومي في أعلى المراتب، وضعف قبضة الإدارة الحكومية.
وفي الوثيقة المعنونة بـ”نقاشات حول شبه الجزيرة العربية مع بريطانيا” ARABIAN PENINSULA DISCUSSION WITH BRITISH الصادرة عن السفارة الأمريكية بلندن في الثاني عشر من يونيو لعام ١٩٧٣م، قالت بريطانيا أن الحل العسكري مستحيل حالياً إلا في حال حصول تغييرات غير متوقعة كحدوث تغيير جذري للأفضل في نظام اليمن الجنوبي أو نجاح السعودية في انتزاع محافظة حضرموت من اليمن الجنوبي عسكرياً وهو ما سيؤدي لانقطاع الإمدادات العسكرية للمعارضة المسلحة في ظفار.
كما أن البريطانيين شككوا في إمكانية التوصّل لتسوية سياسية بين قابوس والجبهة، وفي حالة موافقة السلطان على استقلال ظفار عبر تسوية مماثلة فإن ذلك سيكون في تقديرهم بداية النهاية بالنسبة لقابوس.

وتناولت الوثيقة بعض التوقعات حول مستقبل الجبهة في ظفار والخليج العربي، وأشارت للخلية التي ألقي القبض عليها في شمال عمان وأعدم ١١ من أفرادها قبل أيام في حين سجن عشرين آخرين، وكذلك بالإضافة لعدد من التحركات الأمنية ضدها في أبو ظبي والبحرين، كما أن الكويت قامت بإبعاد عدد من ناشطيها، وهو ما سيؤدي حسب التوقعات لإضعاف جهود الجبهة ولو مؤقتاً.
وحسب الوثيقة فإن البريطانيون كانوا يرون أن التنمية الاقتصادية هي السبيل الأمثل لتغيير الأوضاع في عُمان وظفار للأحسن، وأشاروا إلى أن تأثير التنمية، على الرغم من محدوديتها، يمكن قراءته من خلال الانشقاقات عن الجبهة التي تزايدت على إثرها.

وناقشت كذلك الوضع في اليمن وإمكانية الوحدة وموقف السعودية منه، وكذلك علاقة الصين والسوفييت بالوضع هناك.

وفي وثيقة تعود للثامن عشر من يونيو لعام ١٩٧٣م تم تناول موضوع “المساعدات الاقتصادية الإيرانية لعُمان” IRANIAN ECONOMIC AID TO OMAN حيث أبدى وزير الخارجية العماني استعداده لقبول المساعدات الاقتصادية من إيران؛ ولكن لا يمكنهم طلب ذلك منها لخشيتهم من تقديمها لهم مقابل “شروط” معينة وكذلك لوجود إشكاليات حدودية معها، وكذلك تناولوا حساسية العرب من قوة إيران المتصاعدة ومن المساعدات العسكرية التي تقدمها لعمان. وحسب الوثيقة، ذكر أحمد مكي وكيل الخارجية يومها أن الشعب العماني يتمتع بذاكرة طويلة الأمد وأنه لم ينس الاحتلال الفارسي لداخلية عمان ولسواحلها منذ قرون، وأضاف أنه قال لرئيس الوزراء الإيراني خلال زيارته لإيران آن الرأي العام الإيراني لا يعتقد أن المساعدات العسكرية الإيرانية كانت مفيدة لعُمان.

وتناول التقرير عزم المستشار الاقتصادي بعمان جون تاونسند “مواصلة إزعاج” قابوس باتجاه تقديم طلب لإيران من أجل الحصول على مساعدات اقتصادية، وذكر أن الشاة قدم تصوراً حول “بنك التنمية الخليجي” ولكن لم يتم مناقشة شيء محدد. وكذلك تكلم تاونسند أنه بينما احتمالية تقديم مساعدات من السعودية وأبو ظبي وقطر والكويتيين تبدو باهرة، إلا أن القليل جداً قد وصل للعمانيين حتى حينها. وأنه لو تم بعثرة الطلبات فلربما تنتهي عمان مع كمية من المساعدات لا تستطيع استيعابها.

وفي وثيقة أخرى تحت عنوان “إعدام متمردي جبهة تحرير عُمان والخليج العربي” EXECUTIONS OF PFLOAG INSURGENTS الصادرة في ٢٨ يونيو ١٩٧٣م تمحورت حول نتائج المحاكمة التي جرت لعدد من متمردي الجبهة وما حصل بعدها من تبعات، فقالت في البداية أن عدد محاكمات وإعدامات متمردي الجبهة متضاربة نوعاً ما، ولكن راديو عمان بث في العشرين من يونيو العدد الصحيح. فما مجموعه ٧٧ من المتمردين حوكموا في التاسع والعاشر من يونيو من قبل محكمة مكونة من وزير الداخلية السابق السيد سلطان، ونائب محافظ العاصمة السيد ماجد، وقاضيان، والنقيب سالم حكم من شرطة عمان. وقد تم دعوة مجلس الوزراء للحضور ولكن جميع الوزراء أرسلوا ممثلين لهم. وقد صدرت الأحكام في السادس عشر من ذات الشهر بإعدام ١٩، تبرئة ثلاثة، والبقية بأحكام سجن تتراوح من المؤبد حتى ستة أشهر.

وبعد تنفيذ حكم الإعدام بحق ستة مدانين على يد فرقة إطلاق نار تابعة للجيش في التاسع عشر من يونيو قام مجموعة من الوزراء برفع مناشدة للعفو للسلطان، وفي العشرين من يونيو تم إعدام أربعة آخرين ومن ثم أمر السلطان بتخفيف باقي أحكام الإعدام للمؤبد. وقد كان أول ستة معدومين من ضباط الجيش وليسوا شيوعيين، وأحدهم من قبيلة البوسعيدي ولكن ليس من الأسرة الحاكمة.
ومن خلال محاولة السفارة لجسّ نبض الرأي العام للشارع العماني على إثر الإعدامات قال البعض أن الإعدام على خلفية سياسية ليس من التقاليد العُمانية وأنهم يخشون من انتقام عائلات وقبائل المعدومين، فيما فضل آخرون الصمت. فيما كان رأي العسكريين من الجيش والشرطة مؤيداً لإعدام الجميع. وقد أفاد أحد البريطانيين أن السلطان تلقى رسالة قبل المحاكمات من الداخلية تدعو لتطبيق أقصى عقوبة ممكنة، بينما كان رأي النخبة المثقفة في مطرح ومسقط أن قرار الإعدام كان خاطئاً وليس من التقاليد العمانية.

وفي وثيقة “زيارة وزير الخارجية الكويتي للخليج الأدنى وعمان” KUWAITI FONMIN’S TRIP TO LOWER GULF AND OMAN الصادرة عن السفارة الأمريكية بالكويت في الأول من يوليو لعام ١٩٧٣م تم ذكر بعض تفاصيل مقابلة صباح الأحمد الجابر وزير الخارجية الكويتي مع قابوس أثناء زيارته لعُمان بشهر يونيو، وقد قال صباح أنه أُعجب بالسلطان منذ البداية وقد فهما بعضهما البعض بسهولة. كما أن سجيّة قابوس المُنفتحة والمُتقبلة شجعاه لنصحه بعدم البقاء في صلالة بل للتجوال في السلطنة أكثر. وقد أجاب السلطان على هذا بأنه يرغب بفعل ذلك ولكن هكذا زيارات تُعرّضه لفيضان من الالتماسات التي يُقدمها له الناس ولا يستطيع تلبيتها بسهولة.

وقد رد صباح بأن السلطان يجب عليه أن لا يترك انطباعا بأنه يحاول تجنب شعبه، بل يجب عليه أن يُعلن عن أنشطته وبرامجه، وأن يقوم كذلك بزيارات شخصية للمشاريع التنموية في مختلف أنحاء البلاد. وأضاف بأن راديو عُمان يُمكن أن يُستخدم لغرض كهذا بشكل أفضل مما تم لحد الآن. ويظل الهدف من كل هذا هو بناء صورة جيدة للسلطان عند مواطنيه. وقد استجاب السلطان بطريقة جيدة لهذه المشورة.

وخلال اللقاء انتقد السلطان سياسة الكويت في مساعدة جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، وقال أنه بغض النظر عن نوعية المساعدات فإنها تُساعد في تقوية ضغوطاتها تجاه عُمان والسعودية واليمن الشمالي. وقد حاول صباح التوضيح بأن المساعدات إنسانية بحتة والغرض منها هو إقناع اليمن الجنوبي بأنه هناك بدائل غير الاعتماد على الدول الشيوعية، ولكن قابوس لم يكن مرتاحاً لهذا التعليل. ونتيجةً لموقف من السلطان؛ فإن رئيس الوزراء الكويتي قام لاحقاً بإرسال المسؤول عن شؤون الجزيرة العربية “سقاف” إلى عدن للاستفسار من رئيس وزرائها حول مصالح اليمن الجنوبي في ظفار وهدفها من دعم المتمردين هنا.